الفيدرالي في مرمى النيران .. ترمب يختبر حدوده بضغوط غير مسبوقة

الفيدرالي في مرمى النيران .. ترمب يختبر حدوده بضغوط غير مسبوقة
باول إلى جانب ترمب خلال زيارته لمبنى الفيدرالي.

يواجه جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، ضغوطا سياسية غير مسبوقة من البيت الأبيض، كانت مستحيلة قبل تولي الرئيس دونالد ترمب السلطة.

منذ عهد ريتشارد نيكسون لم يشهد الرؤساء تحديا لفكر البنك المركزي في الشؤون النقدية، فضلاً عن استخدام ألفاظ مثل "أخرق" في وصف رئيسه.

تقول مجلة "بارونز" إن استقلال البنك المركزي اعتقاد راسخ لدى معظم الاقتصاديين والسياسيين الرئيسيين، يمينا ويسارا.

كتب بن برنانكي وجانيت يلين، الرئيسان السابقان للفيدرالي، هذا العام: "إن مصداقية الفيدرالي – وقدرته على اتخاذ قرارات صعبة بناءً على بيانات وتحليلات لا تمت إلى الأحزاب بصلة - تعد ثروة وطنية مهمة".

أضافا، أن هذه المصداقية تتطلب أن تُدار السياسة النقدية بعيدًا عن الاعتبارات السياسية.

ورغم هذا، يجادل معارضون بأن استقلال البنك المركزي غير ديمقراطي، بحجة أن قرارا بيد خبراء غير منتخبين ينبغي أن يكون بأيدي ممثلي الشعب المنتخبين.

من وجهة نظر ترمب، فإن باول والفيدرالي "قد خذلوا" الشعب بإبقاء سعر الفائدة مرتفعًا. وكتب على منصة "تروث سوشال": "لو كانوا يؤدون عملهم على أكمل وجه، لوفرت بلادنا تريليونات الدولارات من تكاليف الفائدة".

وخلال زيارته الأخيرة لمقر الاحتياطي الفيدرالي الجاري بناؤه في واشنطن، اعترف بأن هدفه الأساسي هو الضغط على باول لخفض أسعار الفائدة.

تأتي الانتقادات من اليسار أيضا، إذ كتب فرانك ستريكر، أستاذ متقاعد في جامعة كاليفورنيا دومينجيز هيلز وعضو في حركة الاشتراكيين الديمقراطيين، أن تركيز الفيدرالي المكثف على مكافحة التضخم غالبًا ما يُفضي إلى نتائج غير مواتية للطبقة العاملة، مثل تسريح العمال وتراجع الأجور والركود الاقتصادي، وختم قائلاً: "إذا كنت تعتمد على راتبك، فالفيدرالي ليس حليفا لك".

كيف أصبح الفيدرالي غير محبوب إلى هذه الدرجة؟
تعود جذور فكرة استقلال البنك المركزي إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وجائحة الإنفلونزا عام 1918، عندما كانت الدول غارقة في ديون، فأغلقت حدودها، وفرضت حواجز تجارية، وضوابط صارمة على حركة رؤوس الأموال، وتراجعت الإنتاجية العالمية.

اجتمع اقتصاديون ومصرفيون من 39 دولة لأسبوعين في بروكسل عام 1920، وخلصوا إلى مجموعة من التوصيات: الانضباط المالي، والتجارة الحرة، والسياسة النقدية بقيادة بنوك مركزية مستقلة، لكن تطلّبت هذه السياسات تضحيات اجتماعية كبيرة.

كما اعترف مسؤول الخزانة البريطانية، روبرت تشالمرز قائلاً: “علينا أن نعمل بجد، ونعيش بجد، وندخر بجد".

ونصح الاقتصادي رالف هوتري عام 1925 قادة البنوك المركزية قائلًا: “لا تبرروا أبدا، لا تندموا أبدا، لا تعتذروا أبدا".

لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة دائمًا؛ ففي الولايات المتحدة، وحتى صدور قانون البنوك عام 1935، كان وزير الخزانة يشغل وظيفة رئيس الفيدرالي.

لمواجهة التضخم المرتفع بعد الحرب العالمية الثانية، خاض الفيدرالي أول اختبار حقيقي لاستقلاله عام 1951 في مواجهة رئيس الولايات المتحدة آنذاك، هاري ترومان، الذي أراد خفض الفائدة لتقليل الدين العام وسداد التزامات الحرب العالمية الثانية، فيما أصر الاحتياطي، بقيادة توماس مكابي، على رفعها لمكافحة التضخم.

وفي النهاية وُقّع "اتفاق ترومان – الاحتياطي الفيدرالي 1951" لتأكيد استقلالية البنك.

لكن لم يكترث الرئيس الأمريكي نيكسون لهذا المبدأ، وكان يضغط باستمرار على رئيس الفيدرالي الذي اختاره بنفسه، آرثر بيرنز، لخفض الفائدة ليفوز بولاية ثانية، بأسلوب "مخيف" كما كتب بيرنز. خضع بيرنز، وفاز نيكسون بولاية ثانية مصحوبة بتضخمٌ برقم مزدوج أواخر السبعينيات.

كل ما يريده السياسيون هو: معدلات فائدة منخفضة. فالمسؤولون يسعون إلى كسب الانتخابات، والفوز بها أسهل في اقتصاد مزدهر، لا الذي يمر بركود.

وقال ألان جرينسبان، رئيس الاحتياطي السابق، إنّه بالكاد تذكّر أن أي رئيس أو عضو في الكونجرس دعا إلى رفع الفائدة. ومع ذلك، أحيانًا الركود هو الحل.

ثم جاء بول فولكر، أحد أبرز رؤساء الفيدرالي في التاريخ، والمنقذ من تضخم السبعينيات، لكنه لم يقبل المنصب إلا بشرط واضح: استقلال تام عن الرئيس جيمي كارتر، الذي كان يائسًا من حل المشكلة الاقتصادية، فرضخ واعتمد سياسة فائدة مرتفعة، رغم المخاطر، وعصفت بالبلاد فترات اقتصادية قاسية لم تشهدها منذ الكساد العظيم.

واليوم، يتبنى باول الحكمة نفسها، ومستعد للمخاطرة بركود لكبح التضخم.

والسؤال: هل يستطيع المسؤولون المنتخبون اتخاذ القرارات "الصعبة"، كما وصفها برنانكي ويلين؟

كتب مارينز إيكليس، رئيس الفيدرالي السابق: "نادرًا ما تلقى قرارات الفيدرالي قبولا"، وكأنه تنبأ بآخر صدام بين البنك المركزي والبيت الأبيض: تجاوزات في تكاليف تجديد مقر الاحتياطي الفيدرالي، البالغة 2.5 مليار دولار.

ومع أن ترمب يلقي باللوم على باول، لكنه قال "من غير المرجح" أن يُقيله، ما لم يضطر إلى "المغادرة بتهمة الاحتيال".

لقد ولت أيام "لا تبرروا أبدًا؛ لا تندموا أبدًا؛ لا تعتذروا أبدًا".

الأكثر قراءة