بنوك روسيا تخشى أزمة ديون وسط ضغوط على الاقتصاد بسبب الحرب
يواجه الاقتصاد الروسي آفاقاً أكثر قتامة وخطورة مما يعترف به علناً، إذ إن البنوك معرضة لخطر حدوث أزمة نظامية خلال الاثني عشر شهراً المقبلة، وفق مسؤولي القطاع.
قال المسؤولون، استناداً إلى وثائق اطلعت عليها "بلومبرغ نيوز"، إن البنوك الروسية تزداد قلقاً حيال مستوى الديون المتعثرة في ميزانياتها. وقد حذرت سراً من عدد العملاء من الشركات والأفراد الذين يعجزون عن سداد القروض نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة.
ووصف مسؤولون حاليون وسابقون في القطاع المصرفي الوضع في روسيا بأنه خطير، وأشاروا إلى تصاعد خطر انتشار أزمة ديون في القطاع المالي خلال العام المقبل إذا لم تتحسن الظروف. وتحدث هؤلاء الأشخاص بشرط عدم كشف هوياتهم لأنهم غير مخوّلين بمناقشة هذه المخاوف علناً.
مخاوف من عقوبات إضافية مع استمرار الحرب
قد تثير الضغوط داخل النظام المصرفي تساؤلات أوسع حول قدرة الرئيس فلاديمير بوتين على مواصلة الحرب في أوكرانيا، التي تدخل عامها الرابع، خصوصاً إذا قرّر حلفاء كييف في الولايات المتحدة وأوروبا استهداف القطاع المالي الروسي بعقوبات أشد. تبحث دول الاتحاد الأوروبي حالياً فرض قيود جديدة على مزيد من البنوك الروسية.
كما يواصل داعمو أوكرانيا الضغط على دونالد ترمب لفرض عقوبات جديدة صارمة على روسيا، بعدما رفض بوتين دعوات وقف إطلاق النار تمهيداً لمحادثات سلام. وحتى الآن، لم يُقدِم الرئيس الأميركي على اتخاذ أي إجراءات.
إشارات مبكرة على أزمة ائتمانية في روسيا
قال بعض الأشخاص المطلعين إن الأرقام الرسمية قد تُخفي الحجم الحقيقي لمشكلة الديون. فالمقترضون يؤجلون السداد، ما يعني أن البيانات العامة حول التأخر في الدفع لا تُظهر حتى الآن مشكلة خطيرة، لكن الواقع هو أن عدداً أكبر بكثير من القروض لا يُسدد وفق المخطط، وفقاً لمذكرة داخلية صادرة عن أحد البنوك الكبرى اطّلعت عليها "بلومبرغ".
قدّرت البنوك أن ديونها المتعثرة تصل إلى تريليونات الروبلات، وتتخذ خطوات لإدارة هذا الخطر المتزايد، ما يعطي إشارات مبكرة على أزمة ائتمان وشيكة، بحسب أشخاص مطّلعين على التقييمات الداخلية.
وأظهر أحد التقديرات أن محفظة قروض الشركات لدى البنوك الروسية خسرت نحو 1.5 تريليون روبل (ما يعادل 19 مليار دولار) خلال أول شهرين من عام 2025، قبل أن تستقر.
توترات تخرج للعلن بين كبار المسؤولين
طفت إلى السطح التوترات بين كبار مسؤولي الرئيس فلاديمير بوتين بشأن المخاطر التي تهدد الاقتصاد خلال منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، الحدث الاقتصادي الأبرز في روسيا، الأسبوع الماضي.
وقال وزير الاقتصاد مكسيم ريشتنيكوف خلال جلسة نقاش: "نحن على شفا الدخول في ركود"، فيما جادلت محافظة البنك المركزي الروسي، إلفيرا نابيولينا، بأن الاقتصاد يمر بمرحلة تباطؤ ضرورية. من جهته، أقر وزير المالية أنطون سيلوانوف قائلاً: "نمرّ الآن بشتاء اقتصادي".
ثم أوضح بوتين موقفه في خطاب ألقاه في اليوم التالي قائلاً: "يشير بعض المتخصصين والخبراء إلى مخاطر التباطؤ الاقتصادي وحتى الركود"، مضيفاً: "هذا، بالطبع، غير مسموح به تحت أي ظرف".
الاقتصاد الروسي صامد رغم سنوات العقوبات
لكن تجدر الإشارة إلى أن سنوات العقوبات غير المسبوقة التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في مجموعة السبع منذ أن أمر بوتين بشن حرب على أوكرانيا عام 2022، لم تنجح حتى الآن في شلّ الاقتصاد الروسي، إذ أنفقت الحكومة بقوة على الصناعات الدفاعية وقدّمت دعماً واسعاً للشركات المتضررة من تلك القيود.
كما حققت البنوك الروسية أرباحاً قياسية بلغت 3.8 تريليون روبل في عام 2024، متجاوزة نتائج العام السابق بنسبة 20%، وفقاً لبيانات البنك المركزي.
غير أن الطلب العسكري على الأيدي العاملة فاقم نقص العمالة وساهم في إطلاق دوامة ارتفاع في الأجور، ما عزز دخول عديد من الروس في سوق العمل، لكنه في الوقت ذاته غذّى التضخم المتسارع، الذي بلغ ذروته متجاوزاً 10% على أساس سنوي في اقتصاد محموم.
الفائدة العقابية تخنق النمو وتهدد الشركات
استجابة لذلك، رفع بنك روسيا المركزي سعر الفائدة الرئيسي إلى مستوى قياسي بلغ 21% في أكتوبر.
وخفضت بحذر نابيولينا الشهر الجاري سعر الفائدة للمرة الأولى منذ نحو ثلاث سنوات إلى 20%، وذلك بعد موجة شكاوى من قبل المسؤولين والشركات بأن تكلفة الاقتراض العقابية تخنق النمو وتهدد بإفلاس الشركات.
بينما نما الاقتصاد بنسبة 4.5% العام الماضي، تراجع معدل النمو السنوي بشكل حاد إلى 1.4% في الربع الأول من عام 2025، وفقاً لبيانات هيئة الإحصاء الفيدرالية.
اقتصاد "مزدوج المسار"
تتراكم المشكلات في ما يُعرف بـ"الاقتصاد مزدوج المسار" في روسيا، حيث يستفيد المجمع الصناعي العسكري من الإنفاق الحكومي الضخم على الحرب، في حين تكافح شركات عدة في القطاع الخاص في ظل تباطؤ الطلب، وارتفاع التكاليف، وتراجع أسعار الصادرات.
أما الضغوط المتنامية على القطاع المصرفي، فهي الأقل تناولاً في التقارير بعدما منحت البنوك قروضاً ميسّرة ساهمت في تمويل جزء كبير من الجهود الحربية للكرملين، وتجد نفسها الآن مثقلة بعبء تحصيل تلك الديون.
وبحسب الأشخاص والوثائق، هناك تباطؤ واضح في قطاعي البناء والصناعة، بل تلوح مؤشرات على أن الجانب العسكري من الاقتصاد الروسي ربما بدأ يشهد بوادر ركود.
تضاعف عدد الشركات غير القادرة على خدمة ديونها
ظهرت بعض المؤشرات العلنية التي تعكس القلق حيال مستويات الديون المتعثرة. فقد حذر تقرير صادر عن بنك روسيا المركزي في مايو من "مواطن ضعف في القطاع المالي"، من بينها "مخاطر الائتمان ومخاطر تركز في الإقراض للشركات"، بالإضافة إلى "تدهور أداء القروض" في قطاع الإقراض الاستهلاكي.
أشار التقرير إلى أن 13 من بين أكبر 78 شركة في روسيا لم تتمكن من خدمة ديونها، وهو ضعف عدد الشركات التي واجهت المشكلة قبل عام واحد فقط.
ومع ذلك، أكدت الجهة المنظّمة أن "القطاع المصرفي لا يزال يتمتع بالمتانة بشكل عام"، لافتةً إلى أن نسبة القروض المتعثرة في الإقراض للأفراد كانت "أقل بكثير" مقارنةً بالفترة بين 2014 و2016، عندما تعرّضت روسيا لأول مرة لعقوبات بسبب أوكرانيا عقب ضم بوتين لشبه جزيرة القرم.
احتمال الأزمة المصرفية معتدل
حذّرت وكالة التصنيف الائتماني الروسية "إيه سي آر إيه" (ACRA) في تقرير صدر في مايو من "تدهور في جودة القروض". وقالت الوكالة إن نحو 20% من إجمالي رأس مال القطاع المصرفي يعود لمقترضين يواجهون خطر تراجع كبير في الجدارة الائتمانية بسبب ارتفاع أسعار الفائدة.
كشفت ورقة بحثية أخرى نُشرت في الشهر ذاته عن "احتمال معتدل" لحدوث أزمة مصرفية نظامية بحلول أبريل 2026، بحسب مركز التحليل الاقتصادي الكلي والتنبؤات قصيرة الأجل، وهو مركز أبحاث يتمتع بعلاقات وثيقة مع مسؤولين في الكرملين.
وحذّرت الورقة من أن هذا الخطر قد يتصاعد في حال استمر تراجع إصدار القروض الجديدة، وازداد حجم القروض متعثرة الأداء.