أوروبا بعيدة عن حل مأزق نقص العمالة الماهرة .. أزمة تهدد النمو والتنافسية
تشهد أوروبا في السنوات الأخيرة أزمة هيكلية متصاعدة في سوق العمل تتمثل في نقص حاد في العمالة الماهرة، ما أصبح يشكل تهديدا مباشرا للنمو الاقتصادي وقدرة الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على جاذبيته الاستثمارية.
وبينما تخوض القارة معارك متزامنة في مجالات التحول الرقمي والانتقال الأخضر، تواجه تحديا مزدوجا يتمثل في تقلص الفئة العاملة وتزايد الفجوة بين المهارات المتوفرة وتلك المطلوبة.
تشير بيانات المفوضية الأوروبية إلى أن نحو 80% من الشركات العاملة في دول الاتحاد تجد صعوبة في توفر أصحاب المهارات المناسبة، خاصة في قطاعات إستراتيجية مثل تكنولوجيا المعلومات والرعاية الصحية.
وبحسب أحدث التقارير، هناك 42 نوعا من الوظائف في الاتحاد الأوروبي تعاني نقصا حادا في العمالة المؤهلة، ما يضعف قدرة المؤسسات على التوسع والابتكار.
من جانبه، يتوقع الخبير الاقتصادي الدكتور فيليب جورج في حديثه لـ"الاقتصادية"، تفاقم هذه الأزمة في العقد المقبل، مشيرا إلى أن الاتحاد الأوروبي قد يفقد مليون عامل سنويا حتى 2050 نتيجة الشيخوخة السكانية وتباطؤ النمو الديموغرافي.
ويضيف: "عديد من الأنظمة التعليمية في أوروبا، ولا سيما في دول جنوب القارة، تعاني بطئا في تحديث المناهج والتفاعل مع احتياجات السوق، ما يؤدي إلى تخريج أجيال غير مهيأة للانخراط في وظائف تتطلب مهارات متقدمة".
ويتمثل الخطر الأكبر الذي يثير قلق الأوروبيين بشأن نقص العمالة الماهرة في تداعياته المباشرة على الإنتاجية، إذ يؤدي ضعف الاستفادة من رأس المال البشري إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، ما يضعف بالضرورة جاذبية الاقتصادات الأوروبية للاستثمار الأجنبي المباشر.
وحذر منتدى الاقتصاد العالمي، أن 54% من الشركات الأوروبية تتوقع تفاقم أزمة نقص العمالة الماهرة خلال السنوات الخمس المقبلة، وهي نسبة تفوق بكثير المتوسط العالمي.
لكن المشكلة لم تعد محصورة في الأعداد فقط، بل في جودة بيئة العمل أيضا.
في هذا السياق، تشير الباحثة في الاقتصاد الأوروبي أوليفيا ويليامز إلى أن عديدا من الوظائف الماهرة في أوروبا تقدم أجورا تقل بنحو 9% عن نظيرتها في الولايات المتحدة، ما يدفع كثيرا من الكفاءات الأوروبية للهجرة إلى أسواق أكثر جذبا مثل أمريكا وكندا.
وترى ويليامز أن المبادرات الأوروبية، مثل تعزيز التدريب وتحفيز التنقل المهني بين الدول الأعضاء، لم تنجح حتى الآن في معالجة جذور الأزمة، خاصة في ظل تصاعد الخطاب السياسي المناهض للهجرة في بعض البلدان الأوروبية.
وفي ظل هذه التحديات، يطرح الذكاء الاصطناعي كأحد الحلول الممكنة لتقليص الفجوة في المهارات، ويرى بعض الخبراء أنه قد يعوض النقص في قطاعات معينة عبر الأتمتة وزيادة الكفاءة.
إلا أن الاستشاري السابق في منظمة العمل الدولية، أليسون ويبستر، يحذر في حديثه لـ"الاقتصادية" من المبالغة في هذا الرهان.
وقال إن "عديدا من الوظائف التي تشهد عجزا كالتعليم والرعاية الصحية تتطلب مهارات بشرية لا يمكن أتمتتها بالكامل"، مضيفا أن استخدام الذكاء الاصطناعي يتطلب بدوره مهارات جديدة، ما يزيد من العبء على أنظمة التعليم والتدريب المهني.
وتبدو أزمة نقص العمالة الماهرة في أوروبا بعيدة عن الحل السريع، وتتطلب رؤية إستراتيجية متكاملة تشمل تحسين جودة الوظائف، وتوسيع قاعدة المشاركة في سوق العمل، وتطوير التعليم المهني، وتبني سياسات هجرة مرنة، إلى جانب استغلال الذكاء الاصطناعي بطريقة مدروسة.
غير أن تطبيق هذه الحلول يصطدم بمعوقات سياسية ومجتمعية واقتصادية، ما يرجح استمرار الأزمة بوصفها أحد أبرز التحديات التي ستواجه الاقتصاد الأوروبي في العقود المقبلة.