بدأ من الصفر وفشلوا في اغتياله.. هذا هو رئيس كوريا الجنوبية الجديد
لي جاي ميونغ، السياسي اليساري الجريء والعنيد الذي أصبح رئيساً لكوريا الجنوبية، أمضى حياته وهو ينهض مجدداً بعد كل كبوة ليواصل القتال.
كان لي يصارع من أجل البقاء وهو يرقد على سرير في وحدة العناية المركزة بعد أن طُعن في رقبته مطلع 2024.
وبالنسبة لكثير من السياسيين، قد يدفعهم مثل ذلك الحادث لوضع حد لمسيرتهم في العمل العام، لكن هذه الأزمة زادت حماس لي وإصراره على القتال.
محاولة اغتيال لي جاي مينونغ
تماماً مثل الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي نجا هو الآخر من محاولة اغتيال في 2024، يجد لي في الإخفاقات والمعارضة التي يواجهها دافعاً سياسياً ومصدراً للتحفيز، رافضاً مجرد التفكير في التراجع أو الاستسلام.
قال لي عند خروجه من المستشفى بعد 8 أيام من العلاج في أعقاب الهجوم الذي وقع في مدينة بوسان الساحلية: "بما أن شعبي أنقذ حياتي، فسأكرس بقية عمري لخدمتهم وحدهم. إذا استطعنا أن نعيد بناء سياسة تقوم على الاحترام والتعايش، فلن أشعر بأي ندم، حتى لو استغرق ذلك ما تبقى من حياتي".
لطالما شبه البعض الأسلوب الشعبوي الذي يتبعه لي بسلوك الرئيس الأميركي، لكن سياساته لطالما اقتربت من القيم التقدمية التي يروج لها بيرني ساندرز.
نتائج انتخابات الرئاسة الكورية الجنوبية
مع تنامي الزخم لصالحه وسط الفوضى التي أعقبت محاولة الرئيس السابق يون سوك يول الفاشلة لفرض الأحكام العرفية قبل 6 أشهر، اقترب لي تدريجياً من تيار الوسط السياسي. ويعكس هذا التحول إصراره على تحقيق النصر أخيراً ليصبح زعيماً للبلاد، بعدما خسر بفارق ضئيل أمام المحافظ يون قبل 3 سنوات.
أثبت لي أنه يتمتع بالمثابرة والالتزام الكافي لمحاولة توحيد الأمة، واستعادة النمو في الاقتصاد الكوري المتباطئ، وعقد صفقات مع ترمب بشأن التجارة والقوات الأميركية. رغم ذلك، فإن شخصيته المثيرة للانقسام قد تبقى العقبة الوحيدة التي يصعب عليه تجاوزها.
قال ليف-إريك إيزلِي، أستاذ الدراسات الدولية في جامعة إيهوا النسائية في سيول: "لقد أثبت أنه ناج سياسي، بعد الفضائح القانونية، والتكتيكات المشكوك فيها من المعارضة، وحتى التهديدات التي استهدفت حياته. لكن فوزه لا يعود إلى أي مقترحات سياسية بعينها، بل هو نتيجة لانهيار يون المدوي".
فاز لي بنسبة 49.4% من الأصوات، بينما حصل مرشح حزب "قوة الشعب" كيم مون-سو على 41.2%، وذلك وفقاً للنتائج النهائية التي أعلنتها اللجنة الوطنية للانتخابات، وهو هامش أضيق من ذلك الذي أظهرته استطلاعات الخروج المبكر. وأعلنت اللجنة لي رئيساً للبلاد رقم 21 في كوريا الجنوبية اليوم، ومن المتوقع أن يؤدي اليمين الدستورية في الساعة 11 صباحاً بتوقيت سيؤول، بحسب وكالة "يونهاب" للأنباء.
قيادة اقتصاد كوريا الجنوبية
في حملته الأخيرة للفوز بمنصب الرئاسة، قدم لي نفسه بوصفه زعيماً أكثر مرونة ونضجاً، قادراً على التصدي لتحديات قيادة رابع أكبر اقتصاد في آسيا وسط بيئة أمنية تزداد توتراً. وابتعد عن مطالباته السابقة بالدخل الأساسي الشامل والرعاية الصحية المجانية الشاملة، وكذلك عن تصريحاته اللاذعة تجاه الولايات المتحدة الأميركية واليابان.
رغم ذلك، من المرجح أن تشهد حكومته زيادة في الإنفاق العام، وتعزيزاً لحماية العمال، ومحاولات للحد من نفوذ التكتلات العائلية التي تدير الشركات الكبرى في كوريا الجنوبية، وإن كان ذلك دون تحقيق أحلام بعيدة كما كان يطمح سابقاً. كما أنه يدعم الإصلاح الدستوري لتمكين الرئاسة من فترتين، بالإضافة إلى إغلاق محطات الطاقة العاملة بالفحم في البلاد.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد خفف أيضاً من لهجته، مشيراً إلى أنه سيواصل البناء على العلاقات الثلاثية مع الولايات المتحدة واليابان. لكنه لا يزال يفضل نهجاً أكثر توازناً في التعامل مع واشنطن وبكين، ويُبقي الباب مفتوحاً لإمكانية فتح حوار مع بيونغ يانغ.
قالت ياسويو ساكاتا، أستاذة العلاقات الدولية في جامعة "كاندا" للدراسات الدولية في اليابان: "من الإيجابي أن لي جاي ميونغ وفريقه يؤكدون أهمية التعاون الثلاثي، لكن الاختبار الحقيقي سيكون بعد توليه السلطة".
داخلياً، سيتمتع لي بفرصة أسهل في الجمعية الوطنية مقارنة بسلفه يون، إذ إن "الحزب الديمقراطي" المعارض الذي ينتمي إليه وسّع أغلبيته في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت العام الماضي.
وهذا يعني أن أمامه مجالاً أوسع للمضي قدماً في تنفيذ السياسات. فقد كان الجمود التشريعي الناتج عن المواجهة بين القوى المعارضة في البرلمان واستخدام الرئيس حق النقض أحد الأسباب التي استند إليها يون لتبرير قراره المفاجئ بفرض الأحكام العرفية في ديسمبر الماضي.
ملاحقة قضائية
لكن الرئيس الكوري يواجه أيضاً مخاطر قانونية محتملة. فقد لاحقته فضائح في حياته الشخصية، إلى جانب قضايا قانونية متعددة تتعلق باتهامات بمساعدة مطوري أراضٍ من القطاع الخاص، وإساءة استخدام الأموال العامة وانتهاك قانون الانتخابات في السابق. نفى لي ارتكاب أي مخالفات، واعتبر أن الملاحقات القضائية ضده ذات دوافع سياسية. مع أن هذه القضايا قد تُعلق أثناء فترة رئاسته، إلا أن تلك الحصانة تبقى محل شك، إذ يتحدث محللون عن منطقة غامضة قانونياً.
لطالما كانت التوترات سمة ملازمة لحياة لي التي لم تكن يوماً حياة سهلة أو مستقرة.
نشأ لي في فقر مدقع ضمن أسرة عاملة في مدينة سيونغنام، التي تبعد نحو 20 كيلومتراً جنوب شرق سيؤول. بدأ العمل في مصنع للقلائد وهو في سن الثانية عشرة تقريباً، بعد تخرجه من المدرسة الابتدائية. خلال عمله لدعم أسرته، تعرض لحادث أثناء استخدام الآلات، ما أدى إلى تهشم مرفقه الأيسر، تاركاً ذراعه مشوهاً حتى اليوم.
لكن هذه الانتكاسة المبكرة، إلى جانب حرمانه من التعليم الثانوي، لم تُثنه عن مواصلة الطريق. ومن خلال الدراسة الذاتية، تمكن من اجتياز امتحان نقابة المحامين، ليصبح محامياً في أوائل العشرينيات من عمره. بعد سنوات من العمل ناشطاً في قضايا العمال، دخل عالم السياسة من خلال أدوار تنظيمية داخل الأحزاب الليبرالية.
الرحلة إلى رئاسة كوريا الجنوبية
برز اسم لي حين تولى منصب عمدة سيونغنام، وهو المنصب الذي شغله من 2010 حتى 2018. خلال تلك الفترة، زاد من تمويل بعض خدمات الرعاية الطبية العامة، وأغلق منشأة لذبح الكلاب، وطبق نموذجاً أولياً لمنح دخل أساسي للشباب.
سرعان ما بدأ يفكر بما هو أبعد من حدود سيونغنام، إذ خاض دون نجاح الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي في 2017 لاختيار مرشح الرئاسة. ثم أصبح لاحقاً حاكماً لإقليم غيونغي المجاورة بسيؤول، والذي يضم 13.7 مليون نسمة، ويحتضن منشآت رئيسية لصناعة أشباه الموصلات لشركتي "سامسونغ إلكترونيكس" و"إس كيه هاينكس".
حظي أداؤه خلال فترة تفشي كوفيد-19 حين كان حاكماً للإقليم بتقدير واسع، ما مهد الطريق أمامه لخوض انتخابات الرئاسة الكورية الجنوبية من جديد. نجح هذه المرة في نيل ترشيح الحزب الديمقراطي، رغم أن برنامجه الانتخابي بدا أكثر راديكالية مقارنة بسياسات الرئيس المنتهية ولايته ومنافسه مون جاي إن. إلا أن لي خسر الانتخابات أمام يون في 2022 بفارق يقل عن 1%.
قال بارك سونغ مين، رئيس شركة "مين كونسلتينغ" للاستشارات السياسية في سيؤول: "ما زال من الغريب بالنسبة لي كيف تمكن لي، الذي كان عمدة لمدينة صغيرة ولم يشغل مقعداً برلمانياً، من السيطرة على الحزب بهذه السرعة".
من هو رئيس كوريا الجنوبية الجديد؟
بحسب مسؤول في الحكومة الكورية الجنوبية طلب عدم الكشف عن اسمه، فإن الأشخاص الذين عملوا مع لي يصفونه بأنه شخص مليء بالعيوب والنواقص، لكنه ذكي ويتخذ قرارات عملية.
أكسبه أسلوبه المباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتكتيكاته الحادة الكثير من الخصوم على مر السنوات، فيما تزايدت مستويات انعدام الثقة حياله مع تراكم القضايا القضائية ضده.
قالت ساكاتا من جامعة "كاندا" إن ميول لي الشعبوية قد تجعله يفاجئ حتى أعضاء حزبه بعد توليه السلطة، مشبهة إياه بترمب. تابعت: "بغض النظر عما يخطط له الخبراء الاستراتيجيون، يبقى القرار بيد الزعيم. لذلك فهناك دائماً مخاطرة شبيهة بما يحدث مع ترمب".
بصفته زعيماً للمعارضة، حاول لي مراراً استغلال أغلبية حزبه في البرلمان لتمرير تشريعات عارضها يون، وهي تكتيكات جعلت الرئيس يظهر وكأنه يفقد السيطرة على البلاد شيئاً فشيئاً.
وعندما رأى أن يون لم يحتج بما فيه الكفاية على قيام اليابان بتصريف مياه محطة فوكوشيما النووية المدمرة في 2023، بدأ لي إضراباً عن الطعام استمر لأكثر من 3 أسابيع. ويدعي خصومه أن ذلك الإضراب كان وسيلة لصرف الانتباه عن القضايا القانونية ومحاولات اعتقاله.
حكم قضائي
ويبدو أن هذه الاتهامات بدأت تلحق به في نوفمبر من العام الماضي، عندما أدانته محكمة كورية جنوبية بتهمة الإدلاء بتصريحات كاذبة خلال حملته الانتخابية للرئاسة خلال 2021. وكان الحكم، إن تم تأكيده، سيؤدي إلى فقدانه مقعده البرلماني ومنعه من الترشح لأي منصب عام لمدة خمس سنوات.
لكن من خلال الاستئناف على ذلك الحكم والأحكام اللاحقة، نجح لي في تأجيل البت فيها إلى ما بعد الانتخابات، ما أبقاه في الساحة السياسية حتى الآن. وجرى تأجيل النظر في قضيته إلى موعد غير محدد بعد الانتخابات.
جاء طوق النجاة الرئيسي الذي أعاده إلى طريق السلطة بشكل غير متوقع، عندما أعلن خصمه اللدود يون فرض الأحكام العرفية في 3 ديسمبر الماضي، في أول مرسوم رئاسي من نوعه في كوريا الجنوبية منذ نحو 4 عقود. جاءت هذه الخطوة القمعية بنتائج عكسية، إذ أرعبت الأسواق وأدخلت البلاد في حالة طويلة من عدم الاستقرار السياسي، ساهمت في انكماش الاقتصاد.
تدخل إلهي
في غضون ساعات من إعلان المرسوم، قاد لي تحركاً في البرلمان لتحدي الطوق الأمني المفروض حول الجمعية الوطنية والتصويت على إلغاء المرسوم. وكعادته في استغلال اللحظة، بث لي مقطعاً مباشراً لنفسه وهو يتسلق الحواجز الأمنية.
كوريا الجنوبية.. الرئيس المعزول في محاكمة جنائية: لم يكن انقلاباً.. التفاصيل الكاملة هنا
قال بارك من شركة "مين كونسلتينغ": "في كل مرة يبدو فيها أن رحلة لي السياسية على وشك أن تنتهي، ينجو ويواصل المسيرة، وقد رأينا ذلك يتكرر مراراً. في تلك اللحظات، يبدو الأمر وكأنه يتلقى تدخلاً إلهياً".