الرسوم الجمركية لن تتسبب بركود اقتصادي في أمريكا .. على الأرجح
التقديرات تشير إلى أن الرسوم قد تقلص النمو الأمريكي بمقدار نقطة مئوية في 2025
انخفاض النمو الحقيقي بمقدار نقطة مئوية واحدة يعادل خسارة 300 مليار دولار مع ارتفاع في البطالة
في ظل الاضطرابات التي تشهدها الأسواق العالمية، بدا أن حجم وتأثير الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترمبقد فاجأ الجميع، باستثناء المراقبين الأكثر تشاؤماً. فقد جاء الإعلان المفاجئ عن إعفاء جمركي مؤقت مدته 90 يوماً يشمل جميع الدول باستثناء الصين، التي فُرضت عليها رسوم مشددة بنسبة 125%، وهو ما يعني زيادة تعادل 23 نقطة مئوية في متوسط الرسوم الجمركية الفعلية في الولايات المتحدة، لترتفع إلى 25%، وهو أعلى مستوى تُسجله منذ 1909.
الإعلان الأخير لا يُحدث فرقاً كبيراً من حيث حجم هذه الرسوم. ففي حال استمرارها لما بعد مهلة الـ90 يوماً، ستخسر الأسرة الأمريكية نحو 4400 دولار في المتوسط من قدرتها الشرائية هذا العام، بحسب تقديرات مختبر الميزانية (Budget Lab) التابع لجامعة ييل والمحايد سياسياً، ما يُعيد إلى الواجهة شبح الركود الاقتصادي في 2025.
ورغم أن القلق من هذا الاحتمال بات مبرراً في ضوء المستجدات التي شهدها الأسبوع الماضي، خصوصاً لمن لم يتوقع هذا التصعيد الجمركي، فإن السؤال يبقى مطروحاً: هل بات الركود هو السيناريو الأقرب؟
تباطؤ النمو لا يعني ركوداً
ينبغي علينا نحن الاقتصاديين أن نتحلى بالرصانة في التحليل، وبالتواضع عند مواجهة ما تحمله البيانات من عدم يقين. وفي الوقت الراهن، إذا طُرح علي سؤال حول تأثير الرسوم الجمركية، استناداً إلى المعلومات المتوفرة، فسأقول لك إن التأثير سلبي في الاقتصاد، لكنه لا يرقى إلى مستوى الركود.
ومع ذلك، إن كنت مخطئاً في هذا التقييم، فإن النتائج المحتملة ستكون على الأرجح أسوأ مما أتوقع، لا أفضل. وما شهدته سوق السندات خلال الأيام الماضية لا يزيدني إلا قلقاً.
لننظر إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر. تشير تقديرات مختبر الميزانية إلى أن الرسوم الجمركية قد تؤدي إلى تقليص النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في 2025 بمقدار نقطة مئوية واحدة، وهو ما يُعد عبئاً كبيراً على الاقتصاد، ويعادل خسارة تقدر بنحو 300 مليار دولار.
ومع ذلك، إذا استمر الاقتصاد في النمو بمعدل 2% هذا العام، كما رجح أغلب الاقتصاديين في يناير، فإن انخفاضاً بهذا الحجم لا يعني بالضرورة دخول الاقتصاد في حالة ركود، إذ أن 1% لا تزال نمواً، حتى وإن كان ضعيفاً وغير مثير للإعجاب.
وبحسب ما تُجمع عليه القواعد التقليدية في الاقتصاد الكلي، فإن انخفاض النمو الحقيقي بمقدار نقطة مئوية واحدة غالباً ما يُقابله ارتفاع في معدل البطالة يتراوح بين 0.5 و0.6 نقطة مئوية. ورغم أن هذا يُعد مؤشراً مثيراً للقلق، فإن أحدث البيانات تشير إلى أن معدل البطالة قد يبلغ نحو 4.8% مع نهاية العام. علماً بأن أدنى مستوى وصل إليه معدل البطالة عقب أي ركود اقتصادي خلال الـ75 عاماً الماضية كان 6.1%.
ماذا عن البيانات الراهنة ؟
يعتمد المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في تحديد حالات الركود في الولايات المتحدة على الأداء الشهري لـ6 مؤشرات رئيسية، وهي: كشوف الأجور، وتوظيف الأسر، والدخل الحقيقي، وإنفاق المستهلكين، والإنتاج الصناعي، والمبيعات الحقيقية.
ومن جانبي، أعتمد على أداة إحصائية تُعرف باسم نموذج العامل الديناميكي لاستخلاص مكون النمو المشترك بين هذه المؤشرات الستة، إضافة إلى معدل البطالة. وكما هو واضح، فإن هذا المؤشر ينخفض إلى ما دون الصفر قبل دخول الاقتصاد في حالة ركود. وحتى مارس من هذا العام، ظل هذا المؤشر أعلى من مستوى الصفر بشكل واضح، ما يدل على أن الأسس الاقتصادية لا تزال أقوى مما كانت عليه قبل فترات الركود السابقة.
انعدام اليقين يربك المشهد الاقتصادي
ماذا عن حالة عدم اليقين التي ذكرتها سابقاً؟ في هذا السياق، أوضح مدى محدودية النماذج الاقتصادية، ولماذا أعتقد أن تداعيات الرسوم الجمركية قد تكون أسوأ من التقديرات الحالية، لا أفضل.
أولاً، رغم أن النماذج الاقتصادية الكلية تؤدي دوراً جيداً في قياس التأثيرات المباشرة للسياسات، إلا أنها تفشل في رصد الأضرار الإضافية الناتجة عن الغموض المحيط بالسياسات، مثل التأثير السلبي في سلوك المستهلكين أو قرارات الاستثمار لدى الشركات نتيجة عدم اليقين بشأن المسار النهائي للسياسات. هذا الغموض، إلى جانب جوهر سياسة الرسوم الجمركية نفسها، يُعد أحد العوامل الرئيسية التي تفاقم اضطرابات الأسواق.
ثانياً، غياب المؤشرات الحاسمة في البيانات حتى الآن لا يعني بالضرورة غياب التأثير. فعلى الرغم من فرض الرسوم، إلا أن تأثيرها الفعلي لا يزال محدوداً إلى حد كبير بحلول مارس.
وتشير بيانات وزارة الخزانة الأمريكية إلى أن الإيرادات الجمركية في مارس لم تزد إلا بنحو 900 مليون دولار مقارنة بفبراير. ولو أن الرسوم التي أُعلنت في فبراير ومارس كانت قد دخلت حيز التنفيذ الكامل خلال مارس، لكان من المتوقع أن تسجل الإيرادات زيادة بمليارات الدولارات على الأقل.
تحذيرات مبكرة من ركود اقتصادي
ثالثاً، بدأت بعض المؤشرات الاقتصادية بالفعل تُظهر إشارات تحذيرية واضحة. فقد توقع بنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا في تقديراته لنمو الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول من العام، انكماشاً بنسبة سالب 2.8% أو سالب 0.8% بعد استبعاد التشوهات المرتبطة بتحركات أسعار الذهب. كما تراجعت نفقات الاستهلاك الشخصي الحقيقية بمعدل سنوي بلغ 7.1% خلال يناير، ولم تُظهر تعافياً كاملاً في فبراير، حيث نمت بنسبة 1.2% فقط.
وعلى الرغم من أن يناير سبق فرض الرسوم الجمركية الجديدة، إلا أن الترقب لاحتمال فرضها بحد ذاته ربما لعب دوراً في كبح الإنفاق، لا سيما وأن إنفاق المستهلكين على السلع المعمرة ارتفع في نوفمبر وديسمبر استباقاً لهذه الزيادات.
رابعاً، رغم أن الرسوم الجمركية وحدها قد لا تسبب ركوداً اقتصادياً، إلا أن تزامنها مع عوامل أخرى قد يكون كفيلاً بدفع الاقتصاد الأمريكي إلى حافة الهاوية. فالتراجع في معدلات الهجرة يُرجح أن يُبطئ وتيرة النمو، كما أن خفض الإنفاق الفيدرالي قد يُفاقم الوضع بدوره. وإلى جانب ذلك، تبقى الصدمات المفاجئة المحتملة من الساحة العالمية عاملاً لا يمكن تجاهله.
وأعترف بأن هذه المؤشرات لا تبعث على الاطمئنان، فمجرد القول إن الرسوم ستكون مؤلمة لكنها غير مدمرة ليس سبباً للارتياح. فالمعضلة الحقيقية تكمن في أنه إذا أخطأ الاقتصاديون في تقديراتهم، وهو أمر ليس بجديد، فإن التداعيات المحتملة قد تكون أكثر كارثية مما يُتصور.
خاص "بلومبرغ"