صنع مناخ أعمال متوازن

كلما بدا الأمر وكأن الاحتمالات تتراكم ضد التقدم البشري ــ عندما يكون من المنتظر أن يظل النمو الاقتصادي ضعيفا، وعندما يبدو أن كثيرا من البلدان محكوم عليها بالشيخوخة قبل أن تصبح غنية، وعندما يبدو تغير المناخ خارجا عن نطاق السيطرة ــ من الجدير بنا أن نتذكر الفضيلة المتميزة التي يتمتع بها نوعنا.
كان الإبداع هو الذي أبطل مفعول ما يسمى "القنبلة السُـكّانية"، التهديد الذي ظهر في سبعينيات القرن الـ20 ومفاده أن "مئات الملايين من الناس" سيتضورون جوعا حتى الموت مع تسبب النمو السكاني السريع في استنفاد الإمدادات المحدودة من الغذاء. ما حدث بدلا من ذلك، هو أن الابتكارات الزراعية مثل المحاصيل العالية الغلة المقاوِمة للآفات ساعدت على نمو إنتاج الغذاء العالمي بسرعة أكبر من النمو السكاني في كل جزء من العالم تقريبا. على نحو مماثل، كان الإبداع البشري هو الذي وضع الأمراض القاتلة ــ من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز إلى كوفيد-19 ــ تحت السيطرة.
لكن لفترة طويلة كنا نركز بدرجة أكبر على ما تستطيع الحكومات تقديمه لمصلحة الأعمال بدلا من التركيز على ما تستطيع الحكومات والشركات معا تقديمه لمصلح الجميع. وعلى هذا، ففي خطوة أولى حاسمة لتصحيح الخلل، يسعى تقريرنا الجديد "الجاهزية لأنشطة الأعمال" إلى بناء لوحة تحكم شاملة تسمح لأي شخص بحلول عام 2026 بالوصول إلى الإعدادات الدقيقة اللازمة لتنمية القطاع الخاص النابض بالحياة عبر 180 اقتصادا. باستخدام هذه الأداة.
يتلخص الهدف من هذا في تشجيع المنافسة الصحية بين الشركات والبلدان، وتثبيط "السباق نحو القاع" (أحد العواقب غير المقصودة لـ "ممارسة الأعمال"، أو جهودنا السابقة لمساعدة البلدان على تهيئة الظروف المناسبة لتنمية القطاع الخاص).
في حين يغطي إصدار هذا العام 50 اقتصادا فقط، فإن إصدار العام المقبل سيشمل 100 اقتصاد، وسيتوسع نطاق تغطيتنا في عام 2026 ليشمل نحو 180 اقتصادا. ومع كل تكرار، سنعمل على تحسين تصميم التقرير وطرائقه بحيث يعكس الدروس المستفادة.
والبيانات والأساليب المستخدمة في تقرير الجاهزية لأنشطة الأعمال أكثر دقة وشفافية من تلك المستخدمة في تقرير ممارسة الأعمال. فهي توحد آراء وأحكام أكثر من 2500 خبير في مناخ الأعمال، فضلا عن استجابات أكثر من 29 ألف شركة مساهمة في الاستطلاع.
يقودنا تحليل بيانات هذا العام إلى ملاحظتين عامتين. فأولا، ينطوي التنفيذ على فجوة كبرى. إذ تميل البلدان إلى استنان الضوابط التنظيمية بشكل أفضل لتحسين مناخ الأعمال الوطني مقارنة بقدرتها على توفير الخدمات العامة اللازمة لضمان التقدم الفعلي.
ثانيا، في حين تميل الاقتصادات الأكثر ثراء إلى أن تكون أكثر جاهزية لأنشطة الأعمال، فإن أي دولة لا تحتاج إلى أن تكون ثرية لتوفير بيئة عمل جيدة. فبين الاقتصادات الـ50 التي جرى تقييمها هذا العام، احتلت اقتصادات نامية عديدة مكانا بين أفضل 10 دول في عدة فئات: رواندا للخدمات العامة والكفاءة التشغيلية؛ وكولومبيا لإطارها التنظيمي وخدماتها العامة؛ وجورجيا لإطارها التنظيمي وكفاءتها التشغيلية.
يشير هذا إلى أن أغلب البلدان قادرة على تحقيق التقدم، وأن الحكومات يجب أن تكثف جهودها لتصبح جاهزة لأنشطة الأعمال. لكن ينبغي لها أن تفعل ذلك ليس فقط لكسب حقوق المفاخرة الوطنية أو ملاحقة الوعد غير المؤكد بزيادة كبيرة في الاستثمار الأجنبي. فالمكافآت أكثر اتساعا بدرجة كبيرة. فعندما تُخـتار إصلاحات الأعمال على النحو الصحيح وتُـعطى الأولوية المناسبة بعناية، يصبح من الممكن أن تعمل في ذات الوقت على تسريع النمو الاقتصادي، وتعزيز الإنتاجية، والمساعدة على الحد من الانبعاثات الكربونية.
إن إنشاء مناخ أعمال "متوازن" من شأنه أن يوفر الظروف اللازمة لازدهار الإبداع البشري، وهذا هو على وجه التحديد ما يحتاج إليه العالم في وقت يتسم بتباطؤ النمو، وارتفاع الدين، وتسارع تغير المناخ.

خاص بـ " الاقتصادية"
.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي