من الذي يكتب اليوم؟

هذا عنوان مثير بعض الشيء. لأول وهلة قد يعتقد القراء الكرام أنني أقع في خانة الذين يكتبون، وأن الذين يكتبون اليوم نخبة منتقاة، وأنه ليس بمقدور أي كان أن يكتب إلا الذين حباهم الله بملكة الكتابة.

بيد إن قلت إن الكتابة اليوم لم تعد حصرا على أصحاب الفكر والملكات لعارضني البعض. التصور لا يزال قائما أن مهنة الكتابة محصورة بعدد محدد من الناس، وأن الأغلبية الساحقة من البشر تقرأ فقط ولا تكتب.
وهناك قياسات عديدة نوردها لتعريف مَن الكاتب ومَن الذي يكتب. الكاتب يؤلف ويطبع وينشر محتوى فيه من الفكر والرصانة وسلاسة اللغة والمعرفة ما لا يملكه الآخرون.
والكاتب له قراء. إن كتبتُ ولم يقرأ لي أحد فالأجدر أن أتوقف. في غياب المتلقين، لا يكون للكتابة معنى، وفي غياب وسائل نشر المحتوى تبقى الكتابة حبيسة جدران صفحاتها.
لو حاولنا تطبيق هذه المعايير لرأينا أن الكاتب لم يعد محصنا في عالم اليوم، وهو عالم سيّال ورقمي واصطناعي ومتدفق وسريع وإيجابي بشكل منقطع النظير.
قد يرى البعض أن نعت عالمنا هذا بالإيجابية لا يتساوق مع الواقع، لكن في رأيي أن عالمنا الرقمي والاصطناعي اليوم لم يكن إيجابيا مثلما هو عليه الآن طوال التاريخ.
الإيجابية تكمن في أننا لم نعد نرى إلا أنفسنا وكذلك لم نعد نعتد إلا بأنفسنا، ولنا بيوت ومنازل رقمية اصطناعية نسكن إليها، وندماؤها من خيارنا واختيارنا وفي إمكاننا قلعهم ورميهم خارجا إن أظهروا عدم الولاء لنا.

فيروس الإعجاب بالنفس، أي النظر بإيجابية تكاد تكون مفرطة إلى أنفسنا، صار أشبه بمرض معد. اليوم لا نتباهى بعدد الكتب التي نقرأها، ولا نفتخر بأبيات الشعر التي نحفظها، ولا نزر من المعرفة لنا عن تراثنا بأعلامه وعلمائه ومفكريه وشعرائه وكتابه.

قد لا نقرأ إلا لأنفسنا ولا نزور إلا منازلنا ومن يكتب هو نحن ومن يقرأ هو أيضا نحن. وإن حلت علينا الغبطة والفرح والمسرة فهذه لا تأتي إلا من قراءتنا لما نكتبه وإعجابنا به. هذه تزجية عجيبة وغريبة تؤرقني حقا وكثيرا ما حاولت فك طلاسمها والوصول إلى كنهها ومعرفة كيف ولماذا وصلنا إلى عالم لا فرح فيه إلا المرح الذي نستقيه من الذي نكتبه لأنفسنا ونقرأه بأنفسنا.

الثورة الرقمية وثورة الذكاء الاصطناعي تخلقان منا كائنات إدراكها ونظرتها إلى الحياة أصبحا رهينة محبسين، الأول هو "أنا" والثاني أيضا هو "أنا".
انظر الكم الهائل من السيلفي (selfie) أي الصور الذاتية التي نلتقطها لأنفسنا التي تغزو صفحات التواصل الاجتماعي التي تحتل ليس بيوتنا ومنازلنا بل عقولنا، وأجبرتنا على أن نبني منازل شخصية خاصة بنا في أروقتها. واحد فقط من مواقع التواصل الاجتماعي هو الفيسبوك (Facebook) له نحو ثلاثة مليارات مستخدم ناشط.

ولنأخذ الفيسبوك مثالا. إن التقطت سيلفي فسأكون أنا أول المعجبين بنفسي، لأني لن أحمّل الموقع إلا صورة شخصية تعجبني. وحال نشري للسيلفي سيكون هناك سيل رقمي اصطناعي متدفق سريع وإيجابي وأقابله أنا بمثله.

وهل فكرنا في هذا وأثره فينا كبشر وفي طريقة تفكيرنا وعلاقتنا بالعالم الذي نحن فيه؟ هل فكرنا كيف أن الفيسبوك يعيننا في مسعانا على الإعجاب بالنفس من خلال شارات الإعجاب والفيسبوك أساسا لا يمنح من هم في منزلنا الافتراضي غير خيار الإعجاب (like) حيث لا يمنح عملاق التواصل الاجتماعي هذا فرصة أو خيار إبداء عدم الإعجاب ((dislike. هل فكرنا في هذا؟

وقس على ذلك ما سأطلق عليه، ربما لأول مرة، الكتابة السلفية(Selfie Writing) هذه الحياة تدافع وتجاذب تشبه الصور الذاتية لأنها تعكسني مثلما تعكس الصورة وجهي وأعجب بها مثلما أعجب بصورتي وأتلقى شارات الإعجاب وحسب وتعليق الإعجاب وحسب وأتباهى وأتبختر لأنني الكاتب وصانع المحتوى والقارئ والمتلقي والناشر.

ظاهرة الإعجاب بالنفس هذه والتبختر بالذي يكتب والتمويه على نفسه أن لديه قراء ومتلقين ومعجبين كثرا -رقميا قد يكون هذا صحيحا- أخذت تشكلنا اليوم.
وهكذا الفسحة بين الذي يكتب والذي يقرأ آخذة في الانحسار وربما الزوال مستقبلا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي