اليسار الجديد وتحديات البنية للاقتصاد والإنتاجية

يُـحـسَـب للأحزاب اليسارية أنها تمكنت رغم الصعاب من تحسين وضعها اليوم. فقد فاز حزب العمال في بريطانيا للتو بأغلبية ساحقة، منهيا بذلك 14 عاما من حكم المحافظين. ويحظى ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري في فرنسا بفرصة أفضل كثيرا لوقف صعود اليمين المتطرف مقارنة بالقوى الوسطية المتحالفة مع الرئيس إيمانويل ماكرون كما قاد الرئيس الأمريكي جو بايدن بلاده إلى منطقة لم تكن معروفة من قبل بفضل سياسات صناعية وخضراء جديدة، وإن كان متأخرا عن دونالد ترمب في استطلاعات الرأي.

لكن اليسار لم يُـشَـكِّـل بعد هوية تتناسب مع الحقائق الحالية. فكيف ينبغي له أن يعيد ترتيب أوضاعه؟ هل ينبغي له أن يركز على إعادة التوزيع، كما فعل ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة في فرنسا؟ هل ينبغي له أن يلتزم بالمسؤولية المالية، مثل حزب العمال في المملكة المتحدة؟ هل ينبغي له أن يحتضن سياسات صناعية على طريقة بايدن، ولأي غرض؟ كيف ينبغي له أن يتعامل مع قضايا مثل الهجرة، أو البيئة، أو حقوق المتحولين جنسيا، التي تتبنى النخبة الثقافية بشأنها وجهات نظر مختلفة تماما عن عامة الناس؟

اليوم، توظف الصناعات التحويلية حصة متزايدة الصِـغَـر من العمال في الولايات المتحدة وأوروبا. ويعمل القسم الأعظم من قوة العمل في قطاع الخدمات. عندما تولى بايدن منصبه في يناير من 2021، كانت حصة التصنيع في تشغيل العمالة في الولايات المتحدة تقلصت بالفعل إلى 8.5 %. اليوم، أصبحت أقل من 8.2 %، على الرغم من كل الجهود التي بذلتها إدارته لإحياء التصنيع. تتمتع بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا، بحصص أعلى في تشغيل العمالة في قطاع التصنيع، ولكن لم يتمكن أي منها من تجنب الانحدار بمرور الوقت.

لم تواجه أحزاب اليسار هذه الحقيقة بالكامل بعد. ولا يبدو أي من أحاديثهم عن إعادة التصنيع إلى الداخل، والقدرة التنافسية، والتحول الرقمي، والتحول الأخضر واقعيا عندما يتعلق الأمر بالوظائف. وهذه أيضا حال تدابير الحماية ضد الصين.

الواقع أن الحجة قوية لصالح جعل الأنظمة الضريبية أكثر تصاعدية وزيادة معدلات الضرائب على أصحاب الدخول الأعلى. ومن الممكن أن تساعد زيادة التحويلات الاجتماعية وتحسين التأمين الاجتماعي في هذا الصدد، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث تظل شبكات الأمان الاجتماعي ضعيفة. لكن تحويلات الدخل لا تعوض العمال عن فقدان الكرامة والتقدير الاجتماعي الذي يصاحب اختفاء الوظائف المجزية.

ما يحتاج إليه اليسار إذن هو برنامج جدير بالثقة لإيجاد وظائف مُـجزية ومنتجة في قطاعات الاقتصاد المختلفة -وخاصة في المناطق المتخلفة عن الركب ولصالح العمال الحاصلين على تعليم دون الجامعي. الهدف التمثيلي لمثل هذا البرنامج ليس العاملين في صناعة السيارات أو الصلب، بل عمال الرعاية أو التجزئة.

علاوة على ذلك، لا بد أن يكون الإبداع الداعم للعمالة في قلب البرنامج. ويتطلب تعزيز الأجور والوظائف في الوقت ذاته ابتكارات تنظيمية وتكنولوجية تعمل على تعزيز إنتاجية العمال الأقل تعليما. على النقيض من الأتمتة (التشغيل الآلي) وغيرها من أشكال التكنولوجيات الموفرة للعمالة، تساعد الابتكارات الداعمة للعمالة العمال العاديين على أداء مجموعة أكبر من المهام الأكثر تعقيدا. وتُـعَـد الأدوات الرقمية التي تمنح الخبرة أحد الأمثلة على ذلك.

ولأن الإبداع والإنتاجية يشكلان محور هذه الأجندة، فإن السياسات المطلوبة تبدو أشبه بالسياسات الصناعية الناجحة القديمة. بوسعنا أن نطلق عليها وصف سياسات صناعية للخدمات، أو لعل الوصف الأفضل يكون "سياسات إنتاجية للعمالة". وهي تبني على الشراكات المحلية القائمة بين القطاعات وبرامج الإبداع الوطنية، ولكن مع التركيز على الخدمات والتكنولوجيات التي تستوعب العمالة والتي تُـكَـمِّـل العمالة الأقل تعليما. وقد رسمت أنا وزملائي تنويعات مختلفة من هذه البرامج للولايات المتحدة وفرنسا.

يتعين على اليسار الجديد أن يواجه بشكل مباشر البنية الجديدة للاقتصاد وحتمية الإنتاجية. عندئذ فقط سيتحول إلى حركة سياسية حقيقية للمستقبل وبديل جدير بالثقة لليمين المتطرف.

خاص بـ "الاقتصادية"

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.

 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي