اقتصاد التنمية القائم على الخدمات ومستقبله
يكمن مستقبل البلدان النامية في الخدمات. قد يبدو هذا غريبا في ضوء حقيقة مفادها أن التصنيع كان الطريق التقليدي إلى النمو والازدهار في نهاية المطاف، وهو الطريق الذي سلكته كل الاقتصادات الغنية اليوم، فضلا عن قصص النجاح الأحدث عهدا مثل كوريا الجنوبية وتايوان والصين. ويبدو التصنيع أكثر أهمية في ضوء عودة السياسات الصناعية الرامية إلى إحيائه ليصبح ممارسة شائعة مرة أخرى في الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن التصنيع اليوم مختلف. فقد اتخذ الإبداع في التصنيع شكلا يعتمد في المقام الأول على المهارات، الأمر الذي أدى إلى تقليص الطلب على العمال من ذوي المستويات التعليمية المتدنية نسبيا. وتعمل تكنولوجيات جديدة مثل الأتمتة (التشغيل الآلي)، والروبوتات، والطباعة ثلاثية الأبعاد على استبدال رأس المال المادي بالعمالة مباشرة.
ففي حين تتسم بعض الخدمات، مثل الخدمات المصرفية، وتكنولوجيا المعلومات، وتوظيف مصادر خارجية لتنفيذ العمليات التجارية، بالديناميكية الإنتاجية والقابلية للتداول، فإنها لن تستوعب العمالة لذات السبب الذي يجعل قطاع التصنيع غير قادر على ذلك. وحتى في ظل أفضل الظروف، لن توفر هذه الخدمات التي تتطلب مهارات مكثفة نسبيا الحل للتحدي المتمثل في توفير فرص العمل الإنتاجية. يكمن التحدي في زيادة الإنتاجية في الخدمات التي تستوعب العمالة مثل البيع بالتجزئة، والرعاية، والخدمات الشخصية والعامة، حيث لم نحقق سوى نجاح محدود، ويرجع هذا جزئيا إلى حقيقة مفادها أن مثل هذه الخدمات لم تكن قط هدفا صريحا لسياسات التنمية الإنتاجية.
في ورقة بحثية جديدة، نصف أربع استراتيجيات لتوسيع نطاق تشغيل العمالة الإنتاجية في الخدمات التي توفر أكبر عدد من الوظائف في البلدان النامية. تركز الاستراتيجية الأولى على الشركات الراسخة، والضخمة، والمنتجة نسبيا القائمة بالفعل، وتنطوي على تحفيز هذه الشركات على التوسع في تشغيل العمالة، إما بشكل مباشر أو من خلال سلاسل التوريد المحلية. قد تكون هذه شركات تجزئة كبرى، أو منصات مثل خدمات مشاركة الركوب، أو حتى شركات تصدير التصنيع (مع إمكانية توليد روابط المراحل العليا مع مقدمي الخدمات).
تركز الاستراتيجية الثانية على الشركات الصغيرة (التي تشكل القسم الأعظم من الشركات في البلدان النامية) وتسعى إلى تعزيز قدراتها الإنتاجية من خلال توفير مدخلات عامة بعينها. قد تتمثل هذه المدخلات في التدريب الإداري، أو القروض أو المنح، أو مهارات عمالية مخصصة، أو بنية أساسية محددة، أو مساعدة تكنولوجية.
نظرا لتباين هذه الشركات، التي تراوح من الشركات بالغة الصغر والفردية، إلى الشركات متوسطة الحجم، فإن السياسات في هذا المجال تتطلب نهجا متمايزا يستجيب لاحتياجاتها المتمايزة. علاوة على ذلك، ونظرا للأعداد المشاركة، فإن السياسات تتطلب في كثير من الأحيان أيضا آلية للاختيار من بين الشركات الأكثر وعدا، لأن أغلبها من غير المرجح أن تصبح ديناميكية وناجحة.
وتركز الاستراتيجية الثالثة على توفير الأدوات الرقمية أو غير ذلك من التكنولوجيات الجديدة، للعمال مباشرة أو للشركات، التي تكمل بشكل صريح العمالة منخفضة المهارة. يتمثل الهدف هنا في تمكين العمال الأقل تعليما من القيام ببعض الوظائف التي كانت مخصصة تقليديا للمهنيين الأكثر مهارة وزيادة نطاق المهام التي يمكنهم أداؤها.
تركز الاستراتيجية الرابعة أيضا على العمال الأقل تعليما وتجمع بين التدريب المهني والخدمات "الشاملة"، وهي مجموعة من برامج المساعدة الإضافية للباحثين عن عمل لتعزيز فرص توظيفهم، والاحتفاظ بهم، وترقيتهم في نهاية المطاف. الواقع أن برامج التدريب هذه، المصممة على غرار مشروع كويست، وهي المبادرة التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، وغيرها من مخططات تنمية قوة العمل القطاعية المماثلة، تعمل عادة بشكل وثيق مع أصحاب العمل، سواء لفهم احتياجاتهم أو لإعادة تشكيل ممارساتهم في التعامل مع الموارد البشرية لتعظيم إمكانات التوظيف.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.