القوة الاقتصادية التي لا تقهر

بدءا أقول ليس هناك شيء في الدنيا لا يقهر. نحن ومع الكون نسبح في فضاء متحرك ومتغير، لا ولن يبقى على حال. الثابت هو القهار الحكيم.
واستخدامي عبارة "لا تقهر" المراد منها الزمن الذي نحن فيه وحسب، والزمن الذي نحن فيه قصير ليس بامتداد عمرنا الذي يبدو طويلا اليوم قياسا بما نلحظه من تغيير حولنا.
باحث سبعيني مثلي يدرك ذلك أعمق الإدراك. منذ دراستي الجامعية في مستهل العقد السابع من القرن الماضي وإننا في صراع مع ما تجلبه لنا الاختراعات الذكية وآخرها الذكاء الإصطناعي. لو قيل لي وأنا شاب يافع حينئذ، واليوم بلغت من العمر عتيا، إن الماكينة هي التي ستكتب وتنقح لك في أي موضوع ترغب فيه وفي ثوان معدودات، لقلت إن ذالك غير ممكن حتى عند معشر الجن.
ورغم ما يحصل من تطور خارق في الأبحاث العملية التي تقود الاختراقات المذهلة في الذكاء الاصطناعي – ودعني أقف عند مفردة "الاصطناعي" لأن آخر نسخة منه أقرب إلى الذكاء الإنساني منه إلى الاصطناعي – فإن القوة الاقتصادية التي لا تقهر تكمن في مضمار آخر اليوم.
كثير من الدول والمجتمعات اكتسبت ناصية العلم والمعرفة الصناعية والتكنولوجية الذكية والاصطناعية، بيد أن ما تملكه من قوة اقتصادية يمكن قهره بيسر.
في إمكان أي دولة لو وفرت لنفسها ظروف تنمية موائمة ولوج عالم الصناعة بآفاقه الخارقة، ودول جنوب شرق آسيا خير مثال، حيث مثلا تتركز اليوم المعارف الذكية في جزيرة تايوان التي تبز العالم في صناعة أشباه الموصلات، السلعة الدقيقة التي تدير الصناعات الذكية اليوم.
ولتايوان شركة عملاقة لصناعة أشباه الموصلات هي "تي إس إم سي" واليوم تبني مصانع في اليابان والولايات المتحدة وأوروبا الغربية ضمن خطة مدروسة للتوسع حول العالم.
حتى الاستحواذ على صناعة محورية مثل هذه لا يشكل قوة لا تقهر، العلوم في القديم والحاضر والمستقبل أيضا لها ميزة الشيوع، أي إن سعينا لحصلنا عليها، وإن تقاعسنا فاتنا قطارها. وتحدثت في رسالة الأسبوع الفائت كيف أن العرب تمكنوا من استيعاب علوم الأولين وتوطينها والتفوق عليها، رغم جهلهم بها في مستهل تكوين دولهم.
إذن، ما القوة أو بالأحرى القوة الاقتصادية التي لا تقهر؟ ببساطة القوة الاقتصادية التي لا يمكن قهرها اليوم تتركز في يد الذي يملك مفتاح المحفظة المالية في العالم. وإن شئنا أم أبينا، فإن المفتاح اليوم هو في يد الدول صاحبة العملة الصعبة، وفي مقدمتها الدولار، ويليه إلى حد ما اليورو، العملة الرسمية لـ20 دولة من دول الاتحاد الأوروبي الـ27.
 الدولار هو القوة الاقتصادية حاليا التي لا تقهر وليس الجيش الأمريكي الذي قهره الفيتناميون والأفغان والعراقيون وغيرهم في ساحة المعركة، لكن قهر الدولار يبدو لي صار أمرا عسيرا.
ولأن الدولار بضاعة نرغبها كلنا تقريبا، دولا وأفرادا ومؤسسات، صار قوة لا تقهر في يد الولايات المتحدة، التي يهتز الكل تقريبا خوفا ورعشة إن أشهرت سلاح حرمان أي كان من الوصول إليه: وهذا هو بالضبط سلاح الحصار الاقتصادي الذي إن فرضته أمريكا على دولة في أي بقعة من العالم لحولتها إلى دولة فاشلة، وإن كانت مؤسسة مصرفية مثلا لأغلقت أبوابها وأفلست.
لقد خلق الدولار نموذجا اقتصاديا فريدا منح الولايات المتحدة قوة اقتصادية خارقة. أسس هذا النموذج تكمن في طريقة الحصول عليه في الوقت الذي يتكالب العالم كله عليه.
كلنا، أفرادا ودولا ومؤسسات، نشقى ونكد ونعرق للحصول على الدولار، أمريكا تحصل عليه مجانا تقريبا، وفي الحقيقة مهما كان العرض فالطلب متوافر، ولهذا لم تكترث أبدا عندما طبعت 3.3 تريليون دولار في 2020 فقط لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي رافقت تفشي وباء كورونا.
ورغم طبع الكميات الهائلة هذه، والطبع مستمر حتى اللحظة، فإن الطلب على الدولار لا يزال أكثر من العرض، لأنه حاليا عملتنا كلنا شئنا أم أبينا، وهنا تكمن القوة الاقتصادية القاهرة. هل ستقهر القوة الاقتصادية القاهرة هذه؟ الجواب ليس يسيرا، مع ذلك سنحاول تناوله في رسالة لاحقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي