البنوك المركزية والحذر من المِيل الأخير

حالة من التفاؤل تسود الأسواق المالية في الشهور الأخيرة، يصاحبها شعور بالثقة من جانب المستثمرين في أن الحرب على التضخم توشك على بلوغ "مِيلها الأخير" وأن الشهور القادمة ستشهد تيسير السياسات النقدية للبنوك المركزية. وسجلت أسواق الأسهم حول العالم ارتفاعا هائلا هذا العام. وتراجعت فروق العائد على سندات الشركات والكيانات السيادية. وفي الأسواق الصاعدة الرئيسة، حافظت العملات والتدفقات الرأسمالية على صلابتها، بينما استعاد عدد من الأسواق الواعدة قدرته على الوصول إلى أسواق التمويل الدولية. غير أن هذا المِيل الأخير تفترشه العثرات على الأرجح، كما نوضح في العدد الأخير من تقرير الاستقرار المالي العالمي. فيمكن أن تتفاقم التوترات الجغرافية-السياسية لتلقي بتبعاتها على معنويات المستثمرين. كذلك ازدادت حدة الضغوط في قطاع العقارات التجارية، ما قد يفاقم من الصعوبات المفروضة على بعض المقرضين. وتستمر حالة الهبوط عبر الأسواق المالية في الصين بسبب المشكلات الحالية في قطاع العقارات. وبخلاف هذه الشواغل الأكثر إلحاحا، يتواصل نمو مواطن الضعف في هيكل الدين بسبب مستويات الاقتراض الضخمة في القطاعين العام والخاص عبر بلدان عديدة، رغم ارتفاع أسعار الفائدة حتى الآن واستبعاد تسارع وتيرة النمو الاقتصادي حسبما يتوقع تقرير آفاق الاقتصاد العالمي. الارتفاعات الحادة في حجم التقلبات دائما ما يسبقها تباعد بين تقلبات أسعار الأصول ومستويات عدم اليقين، وهو ما يمكن أن يحدث حينما يتفاجأ المستثمرون بالصدمات المعاكسة، ما يدفعهم إلى إعادة تقييم الأصول في ضوء زيادة عدم اليقين. ومن الصدمات المعاكسة التي قد تعرقل المِيل الأخير ارتفاع التضخم على نحو مفاجئ. فرغم ما شهدته عدة بلدان من ارتفاع توقعات التضخم المستقبلية كما أشرنا آنفا، يتوقع المستثمرون إجراء تخفيضات هائلة في أسعار الفائدة الأساسية هذا العام – بنحو 75 نقطة أساس في البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي البرازيلي. ورغم سلسلة الارتفاعات المفاجئة في معدلات التضخم في الولايات المتحدة، لا يزال من المتوقع تخفيض الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة بنحو 50 نقطة أساس. قد يتسبب تعطل وتيرة التضخم في مفاجأة للمستثمرين الذين أصبحوا أكثر اقتناعا بأن النصر قد تحقق بالفعل في معركة التضخم، وأن أسعار الفائدة ستعاود الانخفاض مستقبلا. وفي الاقتصادات التي لا تزال تعاني من استمرار التضخم وتجاوزه لأهدافه، ينبغي ألا تسارع البنوك المركزية إلى التيسير قبل الآوان لكي لا تضطر إلى الرجوع عن قرارها لاحقا. وعليها أيضا التصدي لتوقعات المستثمرين مفرطة التفاؤل حيال تيسير السياسة النقدية، التي أشاعت قدرا من التفاؤل في الأسواق المالية. وحيثما يشير التقدم المحرز إلى أن التضخم يتحرك بخطى ثابتة نحو الهدف، على البنوك المركزية التحول تدريجيا إلى سياسات أقل تشددا. ويتطلب الحفاظ على الاستقرار المالي في المِيل الأخير منهجا متعدد الجوانب. فعلى سلطات التنظيم المالي اتخاذ خطوات لضمان قدرة البنوك والمؤسسات الأخرى على تحمل حالات التعثر والمخاطر الأخرى، باستخدام اختبارات القدرة على تحمل الضغوط والإجراءات التصحيحية المبكرة وغيرها من الأدوات الرقابية. وينبغي أن تولي الأجهزة التنظيمية الأولوية للتنفيذ الكامل والمتسق للمعايير الاحترازية المتفق عليها دوليا، ولا سيما إتمام التنفيذ التدريجي لمعايير بازل 3. ويأتي في مقدمة الأولويات أيضا إحراز المزيد من التقدم فيما يتعلق بأطر التعافي وتسوية الأوضاع للحد من الهبوط الناجم عن سقوط المؤسسات الأضعف. وينبغي أن تضمن البنوك المركزية حصول البنوك على تسهيلات السيولة عند اللزوم والتأهب للتدخل المبكر لمعالجة الضغوط التمويلية في القطاع المالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي