Author

محو الأمية "المالية" والمناهج التعليمية في الغرب

|
أستاذ جامعي ـ السويد

يأخذ الاقتصاد أبعادا أكثر مما نتصورها نحن الناس العاديين. الاقتصاد لولب الحياة في العصر الحديث، وإدارة المال والشؤون المالية من الأهمية بمكان في عالم اليوم. وإلى وقت قريب، كان تدريس علوم الاقتصاد، وعلى الخصوص تلك المتعلقة بالمال العام والخاص، مقتصرا على المدارس والجامعات والكليات أو الأقسام العلمية المتخصصة حصرا.
بيد أن اليوم نلحظ الدعوة إلى إدخال مادة "التوعية أو محو الأمية المالية" financial literacy في مناهج التعليم في المدارس العامة وعلى المستويات المختلفة. فمثلا، هناك محاولات حثيثة في أمريكا، وعلى الخصوص في بعض الولايات مثل نيويورك، حيث يتكدس المال والثروة مع عنان السماء، لإدخال مادة إدارة الشؤون المالية في المناهج التعليمية في المدارس.
نعم، لا تزال الولايات المتحدة أغنى دولة في العالم طرا، وفيها نحو 25 مليون مليونير، وبلغت قيمة الإنتاج المحلي الإجمالي نحو 28 تريليون دولار في 2023.
ماذ يفعل الأمريكيون بثروتهم الفاحشة؟ الناس هناك، أكثر من أي منطقة غنية في العالم، لا يحتفظون بالنقد في جيوبهم أو بيوتهم أو حتى في المصارف. معدل ما يبقيه الأمريكي معه كنقد لا يتجاوز 10 % من ثروته. اما الباقي فيستثمره في الأوراق المالية بشكل أسهم أو سندات.
والطفرات الأخيرة في البورصات الأمريكية أثرت في الناس في الولايات المتحدة بشكل لم يسبق له مثيل. ليس ذلك فحسب، بل ظهرت على السطح ست شركات تريليونية في غضون ثلاثة عقود تبلغ حاليا قيمتها السوقية نحو 13 تريليون دولار.
وسآخذ قصة شركة واحدة من هذه الشركات التي ترقى في بعض تفاصيلها إلى معجزة، هي إنفيديا، الرائدة في الذكاء الاصطناعي وإنتاج وتطوير شرائح الحوسبة الفائقة القدرة. عمرها نحو 30 عاما وتأسست برأسمال لا يتجاوز 40 ألف دولار. وعند الاكتتاب العام لإنفيديا في 1999، لم يتجاوز سعر السهم الواحد 12 دولارا. وأمس، الأربعاء، كان سعر سهم الشركة 925 دولارا. وقبل الاكتتاب كانت تقدر قيمتها السوقية بنحو 1.5 بليون دولار لأسهم مجموعها 1.7 بليون.
وبحساب بسيط، يكون كل من اشترى نحو ألف سهم من الـ1.7 بليون سهم بسعر 12 دولارا حين الاكتتاب قد صار مليونيرا. الطفرة في سعر سهم إنفيديا طفرة خارقة حيث وصلت قيمتها السوقية حسب آخر الأرقام إلى 2.2 تريليون دولار.
لماذا يحتاج الطلاب إلى دروس في كيفية إدارة شؤون الاقتصاد والمال؟ أليس هذا مهمة الحكومات والمختصين والمصارف المركزية؟
هناك منحى جديد في علوم الاقتصاد والمال يمنح ممارسات أفراد المجتمع دورا كبيرا في تعزيز الاقتصاد وتراكم الثروة. مختصر الطروحات الحالية مفاده إن أجاد أفراد المجتمع إدراة اقتصادهم وشؤونهم المالية، فإن الدولة في خير، والعكس صحيح.
في الدول الرأسمالية، التي تشكل عملية جمع الضرائب فيها ركنا مهما من الاقتصاد، كلما زاد دخل الفرد وأرباحه، ازداد وارد الميزانية. بمعنى آخر، إن ثراء الناس في نهاية المطاف ينعكس على ثراء الدولة، لأن الناس تدفع ضريبة عن مدخولاتها وأرباحها. كل ربح يتقاضاه صاحب أسهم في إنفيديا مثلا أو أي شركة أخرى، يدفع ضريبة الدخل المفروضة عليه عند البيع، وعليك أن تحسب كم تتقاضى الحكومة من ضرائب في سوق الأوراق الأمريكية التي يبلغ معدل قيمة تجارة الأسهم فيها في اليوم الواحدا نحو 300 بليون دولار.
 من هنا، صار للأصوات التي تدعو إلى جعل مادة التوعية المالية أو محو الأمية المالية منهجا يدرسه طلبة المدارس كي يتعلموا كيفية إدراة الأمور المالية الشخصية، وطرائق استثمار أموالهم ووضع ميزانية شخصية خاصة بهم، آذان صاغية.
ومقررات دراسية حول الموضوع، ستؤهل الطلبة لأن يكونوا في وضع يملكون فيه من المعرفة ما يمكنهم من اتخاذ قرارات مالية سليمة للمستقبل، ما سيسهم في نجاحهم ماديا واقتصاديا في درب الحياة، وسينعكس ذلك إيجابا على مجمل الحياة والاقتصاد في المجتمع.
أرى أن الوقت قد حان لدول الخليج العربية للشروع في وضع خطة منهجية للتوعية المالية، لكثر التعاملات في القطاع المالي، كي تتمكن أجيالهم من إدارة الشؤون المالية بصورة حسنة دعما للازدهار الاقتصادي المستدام.

إنشرها