البقشيش .. ثقافة صامتة يتلقفها العالم الرقمي
الإكرامية أو البقشيش، ويقال "البخشيش" بالتركية، أو "التبس" (Tips) بالإنجليزية ممارسة شائعة بتاريخ متضارب، فروايات تربطها بظهور المقاهي في بريطانيا، أواسط القرن الـ 17، بغرض ضمان الحصول على خدمة سريعة وجيدة، فما إن يسمع النادل صوت العملة يرتطم بالعلبة المعدنية الموضوعة رهن إشارة الزبائن حتى يسارع لخدمته.
وأخرى تعدها تقليدا خاصا بزوار الحانات، ممن يمنحون مالا إضافيا لساقي قصد ضمان التعجيل بإعداد مشروبهم. وتنسبه رواية ثالثة إلى الأتراك، فكملة "بخشيش" تعني ما يمنح لمن يؤدي خدمة تافهة.
شاعت الممارسة في أنحاء العالم، وتفاوتت الشعوب في تلقيها بين مجتمعات مرحبة بها وأخرى مناهضة لها، وثالث تجيز قبول الإكرامية لكن على استحياء. فإذا كان منح البقشيش واجبا، يرقى لمستوى الالزام، في الولايات المتحدة مثلا، فإنه في بلدان أخرى؛ الدانمارك أو اليابان... بمنزلة وقاحة غير مقبولة، لأن الحصول على خدمة مميزة هو الأصل هناك دون الحاجة إلى دفع "رشوة" نظير ذلك. وفي الصين أضحى مقبولا الآن، لا سميا في المدن الكبرى، بعدما كان حتى وقت قريب تصرفا صفيقا.
تعتقد الأغلبية أن الإكرامية مرتبطة بمدى رضا الزبون عن الخدمة المقدمة، وهذا اعتقاد في غير محله، فالبعض ينزل المسألة منزلة العادة، فيشعر بالذنب عند منحها لإنفاقه أكثر من اللازم، وبالمثل متى أحجم عن تقديمها، فهي بالنسبة له تضامن مع العامل مقدم الخدمة، نظير تعويضه عن تلك الأجرة الزهيدة التي يتلقاها.
ينتظر العمال الإكرامية لضبط ميزانياتهم، فغالبا ما تكون مكملة للدخل بالنسبة لكثيرين، وأحيانا تكون الدخل الأساسي، كما هو الحال مثلا في عدد من المهن بمصر. يختلف مقداره من مجال لآخر، وبحسب الأمكنة الفضاءات، فعشاء في مطعم فاخر بأمريكا، يستوجب دفع ما بين 20% و30% من إجمالي الفاتورة، وتنخفض النسبة إلى 8% فقط في مطعم للوجبات السريعة. وتوقع سائق الأجرة حلوانا من 10% إلى 15% من إجمالي سعر الرحلة.
تتجه الإكرامية نحو فقدان الطابع الاختياري لها، بتزايد ظاهرة إدراج إكرامية العامل ضمن الفاتورة في أوساط المطاعم، فقد بات مألوفا في عدد من الدول الأوروبية (هولندا، فرنسا، إيطاليا...) أن تتضمن الفاتورة مبلغ إضافي عبارة عن رسوم الخدمة؛ إما إجبارية أو اختيارية ممزوج بكثير من الإحراج، تمثل ما بين 20% و25% من مبلغ الفاتورة، ما جعل مراقبين يتحدثون عن "إجهاد الإكرامية".
شهدت الولايات المتحدة، عام 2015، حركة مناهضة للإكرامية كان شعارها "أجر واحد عادل"، فنظام البقشيش، بحسب هؤلاء، يكرس عدم المساواة في الأجور، مطالبين بإقرار الحد الأدنى للأجر، ففي معظم الولايات يكتفي أصحاب المطاعم والمقاهي بدفع 2.13 دولار في الساعة للعمال، على أساس أنهم يتلقون بقشيشا من الزبائن، فالأرقام تتحدث عن 48 مليار دولار سنويا عائدات عمال المطاعم فقط من البقشيش.
خلفت جائحة كورونا في الأوساط الأمريكية ظاهرة تضخم البقشيش (Tipflation)، فتعالت الأصوات الممتعضة من الدفع "الإجباري" المستمر بلا نظير أحيانا.
كتب أحدهم يقول: " لدى الولايات المتحدة ثقافة تحول لا مثيل لها في أي مكان آخر.. في نيويورك أخيرا، اشتريت زجاجة مياه من أحد المتاجر، وعند الدفع طلب مني بقشيش. لكني التقطت المياه بنفسي، وأخذتها إلى المنضدة ودفعت... إنها مجرد طريقة لدفع أجور أقل ونقل تكلفة أكبر إلى العميل".
راهن كثيرون على التحول الرقمي، وتحديدا ما يعرف بالأكشاك الرقمية، للحد من تضخم الظاهرة، كما أثار مخاوف جمة لدى المستفيدين بشأن إمكانية انقراضها، قبل أن تؤكد الثورة الرقمية قدرتها على استيعاب كل شيء. فعلى شاشات دفع الفواتير تجد خيار منح الإكرامية للعامل، فاتسع نطاق البقشيش الإلكتروني مع تسجيل زيادة مهمة في عائداته، وصلت في بعض القطاعات إلى 40%، ويعزى ذلك للتأثير النفسي، فعد النقود يجعل الشخص يمنح أقل خلافا لاستعمال النقود غير الملموسة.
يبدو أن التطور الرقمي عازم على عمولة البقشيش، كما حدث مع ممارسات أخرى، ليصبح ممارسة يومية مقبولة في حياة الأفراد والجماعات. بذلك تكون الثورة الرقمية، وبخلاف الثورات السابقة، صانعة لتحول ناعم في حياة الإنسان المعاصر.