اقتصادات الحرب في أوكرانيا
قد تكون الأحداث العصيبة التي يمر بها العالم وعلى الخصوص الشرق الأوسط قد أنست الكثيرين التفكير بالحرب الطاحنة في أوكرانيا التي هي على وشك أن تدشن عامها الثالث. وعند نشر مقالنا الأسبوعي هذا يكون قد مضى على الحرب في أوكرانيا 730 يوما بالتمام والكمال.
وعندما يدخل الإنسان الحرب لا بد أن يفقد البعض من إنسانيته، ولكن في الحروب الحديثة التي دجج الإنسان نفسه فيها بأعقد ما يمكن تخيله من أسلحة فتاكة، أرى أنها قد تفقد الإنسان ليس إنسيانيته بل حتى عقله.
والعقل والإنسانية مرتبطان. نحس بإنسانيتنا لأننا مخلوقات عاقلة. ومن هنا نسعى لعقلنة حياتنا، أي أن نفكر، وبمعنى أخر أن نستخدم عقلنا لتدبير شؤون حياتنا ومن ثم لمعرفة المفيد من غيره، والغث من ثمينه والصالح من طالحه والشر من خيره. "أفلا تعقلون"، لعلكم تعقلون" ترد في الذكر الحكيم مرارا. والعقل نحتاجه أكثر ما نحتاجه عندما نقع في مشكلات أو تصيبنا كارثة، والحرب ترقى إلى كارثة.
والحرب في أوكرانيا كارثة بكل ما للكلمة من معنى، لأن في أي لحظة قد تفلت من عقالها وتدفع صناع القرار للتطرف في استخدام السلاح، إن شعروا أن وضعهم حرج وإلا لما اكترثوا للجوء الى الأسلحة غير التقليدية.
وإن عزفوا حتى الآن عن استخدام الأسلحة غير التقليدية، فإن الحرب أفرزت لنا سياسات اقتصادية غير تقليدية صارت مثار نقاش في الأروقة الجامعية وعناوين لأبحاث رصينة.
وأنا أشير إليها باقتضاب شديد، أرى أن كل نقطة منها قد تحتاج الى سلسلة مقالات ودراسات معمقة من أصحاب الشأن في شتى المضامير في العالم ليس لوقعها الآني بل المستقبلي.
أهم منحى أفرزته الحرب في رأيي يتعلق بالإقتصاد وعلى الخصوص الصناديق السيادية التي تكدسها بعض الدول في المصارف والعقارات والأسواق المالية الغربية.
لقد أظهرت الحرب أن الاعتماد المفرط على تكديس المداخيل والأرباح في الغرب إن كان على هيئة صناديق أو إستثمارات أو غيره قد يرتد وبالا، لأن الغرب لن يتورع عن استخدام الودائع الأجنبية لديه سلاحا في وجه المودعين في حالة الصدام والاختلاف معهم.
أول إجراء اتخذته الدول الغربية قبل أن تشحن السلاح بمليارات الدولارات لمساعدة أوكرانيا على مقاومة تقدم القوات الروسية واستعادة أراضيها المحتلة كان تجميد الودائع الروسية لديها التي تقدر ب 300 بليون دولار.
ليس هذا فقط، بل هناك محاولات حثيثية للاستحواذ عليها وصرفها، وهذه ظاهرة اقتصادية ستكون لها تبعات، لأنها ترسل رسائل تدخل الفزع في قلوب المودعين الأجانب وتنزع منهم الأطمئنان.
ثاني إجراء اقتصادي متعلق بالحرب هذه كان فرض سقف محدد لسعر النفط الروسي واتخاذ إجراءات عقابية بحق أي دولة او شركة أو مؤوسسة تشتري النفط الروسي بسعر أعلى من السقف مهما كانت الأسعار في الأسواق العالمية.
هذا مؤشر إقتصادي خطير أخر أفرزته الحرب في أوكرانيا وسابقة قد تتكرر في وضع مشابه حتى وإن كانت السلعة ذات قيمة استراتيجية مثل النفط وحتى إن كان البلد موردا رئيسا للسلعة هذه مثل روسيا.
والحالة الاقتصادية الثالثة التي أفرزتها الحرب تتعلق بالمستفيدين من الحرب. في الغالب تكون الشركات الغربية العملاقة أول المستفيدين.
فبينما تئن الناس في الغرب من وقع زيادة الأسعار والتضخم، وأحيانا عدم المقدرة على دفع فواتير الكهرباء، ازدادت أرباح شركات النفط الغربية العملاقة بشكل مذهل على أثر الحرب في أوكرانيا.
خمس شركات نفطية غربية – بي بي وشيل وشيفرون وإكسون موبيل وتوتال – حققت أرباحا صافية في فترة الحرب هذه (730 يوما) تصل إلى 281 مليار دولار.
الظواهر الثلاث في الإمكان عدها جزءا من الاقتصادات التي أفرزتها الحرب في أوكرانيا، وأظن أنها في حاجة إلى الدرس والتمحيص لأن فيها عبرا كبيرة.