النفط بين الاستثمار والاستنفار
الحقيقة التي يجب الوقوف عندها وإدراكها في اعتقادي، نظرا لأهميتها للعالم بأسره دون مبالغة، أن العالم ما زال وسيبقى متعطشا لجميع مصادر الطاقة دون استثناء، كون العالم ينمو في جميع المجالات نموا مطردا، وهذا النمو يرافقه بطبيعة الحال نمو في الطلب على الطاقة، وعليه فعين الحكمة أن يعمل الجميع بالتكامل على رفع كفاءة إنتاج واستهلاك جميع مصادر الطاقة دون استثناء، وليس السعي الحثيث لإقصاء بعض مصادر الطاقة أو محاولة تهميشها.
النمو العالمي المتسارع يعني بالضرورة تأمين إمدادات موثوقة ومستقرة للطاقة تغذي شرايين العالم لتواكب هذا النمو، وهذا هو التعريف الحقيقي لمصطلح "أمن الطاقة العالمي" الذي أخشى سقوطه سهوا أو عمدا من أجندات بعض الدول وصناع القرار.
الجدير بالذكر أن هذه المرحلة التي يمر بها العالم هي مرحلة استثنائية في رأيي بما تعنيه الكلمة، والمتدبر لجائحة كورونا وقضية تغير المناخ وآثارهما في الاقتصاد العالمي، إضافة إلى التوتر الجيوسياسي والأمني في كل من القضية الروسية - الأوكرانية وتهيد إمدادات الطاقة العالمية في البحر الأحمر من قبل ميليشيات الحوثي ومن يقف خلفهم، المتدبر يخلص إلى أن هناك تباينا لافتا في التعاطي مع ما تم ذكره سابقا من قضايا وملفات.
هناك من تعامل مع هذه الملفات والقضايا بموضوعية تحتمها المرحلة، وهناك من تعامل معها بأفق ضيق وبأجندات سياسية واقتصادية أحيانا بعيدة كل البعد عن الواقعية. في رأيي أن المشكلة ليست في التباين في استشراف مستقبل مصادر الطاقة العالمية وعلى رأسها الوقود الأحفوري من بيوت الخبرة ومراكز الدراسات والأبحاث المختصة في هذا القطاع، بل التطرف في التعاطي مع القضايا المتعلقة بمستقبل الطاقة.
بإلقاء النظر على توقعات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية التي تتوقع أن حصة مصادر الطاقة في 2050 ستكون على النحو التالي: النفط 28.1 %، تليه الطاقة المتجددة بنسبة 26.4 %، ويأتي الغاز ثالثا بنسبة تقارب 21.9 %، وفي المرتبة الرابعة يأتي الفحم بنسبة تقارب 19.7 %، وأخيرا الطاقة النووية بنحو 3.9 % من إجمالي مصادر الطاقة العالمية.
بالاطلاع على ما سبق هل يستقيم عقلا ومنطقا أن تنادي وكالة الطاقة الدولية بالتوقف عن أي مشروع جديد للتنقيب عن النفط أو الغاز غير المشاريع المتفق عليها سابقا، والوصول إلى الحياد الكربوني في هذا العام، بينما تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية بناء على الأرقام السابقة أن يشكل الوقود الأحفوري نحو 70 % من مصادر الطاقة العالمية في العام ذاته؟ "جولدمان ساكس" تتوقع نموا في الطلب العالمي على النفط حتى نهاية العقد الحالي، ليصل إلى نحو 106 ملايين برميل يوميا، إذ ترى أن التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة سيكون تدريجيا.
حول السيارات الكهربائية ترى "جولدمان ساكس" أنها ستسهم في خفض الطلب على البنزين بصورة محدودة، وأن الطريق لا يزال طويلا جدا أمام الشاحنات والطائرات، حيث يباع نحو ستة ملايين سيارة كهربائية سنويا، وهذا لا يقلل الطلب سوى بأقل من 100 ألف برميل يوميا في سوق حجمها 100 مليون برميل في اليوم.
في اعتقادي أن استغلال قضية تغير المناخ ومحاولة تقويض صناعة المنبع والاستثمار في الاستكشاف والتنقيب عن النفط هو تهديد لمستقبل الطاقة العالمي، وإن ضعف الاستثمار في هذا القطاع سيصنع فجوة بين العرض والطلب على الطاقة سيتأثر بها العالم أجمع، وستدفع الأسعار إلى مستويات لن يتحملها المستهلكون، ولن يرحب بها - بلا شك - دعاة هذا التوجه والمستنفرون.