البريد التقليدي .. هل يصمد؟
دخلت التكنولوجيا معظم تفاصيل حياتنا، وبدرجة فاقت كل التصورات، وتطورت بتسارع كبير، ولا بد من مواكبة التطورات التقنية الحديثة، التي قدمت عديدا من التسهيلات في شتى مجالات الحياة، وشكلت أثرا إيجابيا في حياة الإنسان، ومن أبرز الآثار الإيجابية للتكنولوجيا في حياتنا، تحسين عملية الاتصال والتواصل، وتشتمل التكنولوجيا المتقدمة على عديد من الأدوات الخاصة بعملية الاتصال، كرسائل البريد الإلكتروني، والمكالمات الهاتفية، وتطبيقات المراسلات النصية الفورية، وخدمات دردشة الفيديو، وتطبيقات الشبكات الاجتماعية، وغيرها، وقد أسهمت كل تلك الوسائل في تسهيل عملية الاتصال بالأقارب والأصدقاء حتى البعيدين منهم، إضافة إلى توفير المال.
يمثل قطاع البريد قطاعا لا مثيل له في قدرته على تقديم الخدمات لأي شخص كان في أي مكان كان من العالم، ويعود ذلك التميز لما لذلك القطاع من شبكة توزيعية منتشرة عالميا من خلال شركات كبيرة، لطالما شكل البريد وسيلة رئيسة للتواصل بين الناس وتبادل الطرود من منتجات ومعاملات ورقية وغير ذلك، وبعد أن كان للبريد التقليدي أهمية كبرى ضمن المجتمعات، أصبح اليوم يواجه سلسلة من التحديات في ظل التطور التكنولوجي والتحول الرقمي، كما يسعى رواد القطاع البريدي إلى مواجهة التحديات الحالية والناشئة، واستثمار التكنولوجيا في تعزيز مستقبل الخدمات البريدية لتصبح أكثر تنوعا وابتكارا. وعلى الرغم من هيمنة وسائل التراسل التكنولوجية، يبقى البريد هو الخدمة الأساسية والمفضلة لنقل الرسائل والطرود المختلفة نحو مختلف أنحاء العالم.
ولا شك أن التحولات التقنية التي انطلقت عمليا مطلع القرن الحالي، أسهمت بصورة مباشرة في تراجع خدمات البريد التقليدية المعروفة. وهذا أمر طبيعي، لأن بعض هذه الخدمات لم تعد مناسبة، خصوصا في المراسلات المحلية التي تمت الاستعاضة عنها بالرسائل الإلكترونية، والبرامج المتطورة التي تعتمدها الشركات التي تقدم الخدمات، وباتت موجودة في أي جهاز هاتف ذكي.
وفي العقد الماضي، تراجع على سبيل المثال في بريطانيا، حجم الرسائل التي تبعث بها البنوك لعملائها، بل انخفض حتى عدد فروع البريد، بما فيها تلك التي كانت مراكز أساسية لهذا النوع من الخدمات. حتى مؤسسات مثل تلك التي تعنى بالضرائب والرسوم والخدمات البلدية وغيرها، استغنت بقوة عن الرسائل التقليدية، وهي بذلك وفرت على ميزانياتها نسبة كبيرة من مخصصات المراسلات. ويواجه البريد البريطاني منذ أعوام مصاعب مالية جمة، إلى درجة أنه بات مهددا بالإفلاس كمؤسسة تعد من أعرق المؤسسات في المملكة المتحدة.
الخدمات البريدية التقليدية باتت الآن في قلب دائرة الخطر، الأمر الذي دفع مؤسسات بريدية حول العالم، إلى تخفيض نسبة العاملين فيها، وقلصت حجم الإنفاق على فروعها، وأغلقت أعدادا كبيرة منها. ففي سويسرا (مثلا) التي تعد منطلق الاتحاد البريدي العالمي في 1874، تعاني مؤسسات البريد تراجع الطلب على خدماته، إلى حد أن قامت مؤسسة البريد في هذا البلد التي تسمى "العملاق الأصفر" بإغلاق ما يزيد على ألف فرع لها في غضون 15 عاما.
وفي مطلع العقد الحالي، واصلت المؤسسة التخلص من الفروع التي باتت مكلفة، وغير متناسبة مع المداخيل المالية لها. والأمر يكاد يكون متطابقا في بقية الدول، ولا سيما تلك التي كانت تشتهر بخدماتها البريدية عالية الجودة، كبريطانيا، ودول عديدة في الاتحاد الأوروبي. وفي الأعوام الماضية، أقدمت مجموعة من مؤسسات البريد في الدول المتقدمة، على رفع حجم إنفاق خدماتها ما يضمن لها تحولات فنية ضرورية تناسب زخم الطلب على هذه الخدمات. وطورت أيضا خدمات جانبية تعزز من عوائدها المالية، لتوفير مساحات مكتبية لفروع المصارف، وكذلك شركات الشحن والنقل الخاصة السريعة، كما أنها عززت من خدماتها المرتبطة بتسديد الفواتير الخاصة بالخدمات التي تقدم للمواطنين. وهذه الخدمات الجانبية رفدت مؤسسات البريد بمزيد من العوائد المالية التي تحتاجها، مع تراجع الاعتماد عليها في المراسلات، ولا سيما تلك اليومية. ومن هنا، نجحت بعض هذه المؤسسات من جهة نجاح تكيفية مع المتغيرات، التي يبدو أن لا حدود لها. ومؤسسات البريد التي توفر منتجا بعيدا عن المراسلات التقليدية، أصبحت تحقق أرباحا مالية جيدة، بحسب كثير من الخبراء في هذا المجال.
ويبدو واضحا أن القائمين على المؤسسات البريدية يتحركون ما استطاعوا لمواكبة المتغيرات المتواصلة، وبات الأمر منذ أعوام عديدة محورا رئيسا في اجتماعات الاتحاد البريدي العالمي، الذي عقد آخر مؤتمر له في الرياض في أكتوبر الماضي. وبحث هذا التجمع سلسلة من القضايا المتعلقة بتطوير الخدمات البريدية بالطبع، وتعزيز بين اتحادات البريد حول العالم. فالتعاون في هذا القطاع يعد أساسيا لأنه متشابك بين أطرافه بشدة، ومن دونه لا يمكن توفير الخدمات المستهدفة.
ومن هنا، تبرز أهمية كبيرة لتوظيف التقنيات الحديثة والخدمات المساندة، وتعزيز الابتكار في مجال سيبقى حيويا بكل الأحوال، لكن لن يكون بالزخم نفسه الذي كان عليه قبل "الانفجار" التقني الواسع الذي حدث في مطلع القرن الحالي.