الأسطورة تتآكل .. وادي السيليكون الأمريكي عند مفترق طرق في معركة المستقبل
يحق للولايات المتحدة الأمريكية أن تفتخر بكثير من ابتكاراتها وإنجازاتها العلمية التي أفادت بها البشرية، خاصة في عالم التكنولوجيا. كما يحق لها أن تفتخر بأن أشهر مركز تكنولوجي على كوكبنا يوجد على أراضيها، إنه وادي السيليكون، إحدى الأيقونات الأمريكية ورمز عالمنا التكنولوجي المعاصر.
لكن السحر المحيط بأسطورة وادي السليكون يزوي ويتراجع تدريجيا، ولم يعد من الغريب أن تجد كثيرا من الخبراء يطرحون تساؤلات من قبيل: ما مستقبل وادي السيلكون، وسط تنبؤات بأن العصر الذهبي للوادي يقترب من نهايته، وأن الغسق يلوح في الأفق؟
مع هذا يحق لنا التساؤل أيضا، ألا يتضمن الأمر بعض المبالغة وكثيرا من التشاؤم؟ فلا أحد يعرف حتى الآن مركزا تكنولوجيا ينافس وادي السيليكون في شهرته. فالوادي يضم بين جنباته كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، وانسحاب شركة منه أو انتقال أخرى إلى مكان آخر لا يعني بداية النهاية بأي حال من الأحوال.
على مدى عقود من الزمن ازدهر وادي السيليكون بوصفه المركز العالمي الأكثر حيوية ونشاطا للتقدم التكنولوجي، فاجتذب خليطا من المبدعين والموهوبين ومليارات من رؤوس الأموال، وبفضل هذا المزيج أسست شركات التكنولوجيا العملاقة، وشيدت أحدث المختبرات، وانطلقت روح إبداعية يقودها علماء وأكاديميون، ليوجدوا جميعا نظاما فريدا من نوعه. مع هذا يتعرض هذا النظام الآن للهجوم والانتقاد.
ويعتقد بعض أن الشكوك حول مستقبل وادي السيليكون لا تنبع من فراغ.
يقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور توماس باتريك أستاذ مادة التكنولوجيا والاقتصاد في مدرسة لندن للتجارة "تآكل جزء من سطوة وادي السيليكون على المجتمع التكنولوجي الأمريكي والعالمي يعود إلى تنامي المنافسة العالمية في قطاع التكنولوجيا بشكل متزايد، فالابتكار لم يعد حصرا على موقع جغرافي واحد، وعديد من البلدان تنشط في تطوير أودية السيليكون الخاصة بها، وتكتسب مراكز التكنولوجيا في شنغهاي الصينية وباريس الفرنسية ولندن وبرلين وبنجالور في الهند شهرة كبيرة وقدرة متنامية على جذب التوليفة ذاتها التي نجم هنا ازدهار وادي السيليكون، وهو الإبداع ورأس المال".
ربما يكون النمو المتواصل لمراكز إبداع أخرى حول العالم، سببا مهما في تراجع الأجواء الاحتفالية التي أحاطت بوادي السيليكون لعقود، كما أن تنامي الابتكارات التكنولوجية القادمة من تلك المراكز قلص ولا شك التفاؤل التكنولوجي الجامح الذي ارتبط لأعوام بوادي السيليكون وبكل جديد قادم منه.
لكن هل تتحمل الحكومة الأمريكية وشركات التكنولوجيا نصيبا من الشكوك الراهنة والمحيطة بمستقبل وادي السيليكون؟
لا يتعلق الأمر بأي مؤامرة لتدمير الوادي لمصلحة وديان أخرى، لكن تنامي القوة المالية لشركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة وتزايد قدرتها على توجيه المجتمع والتأثير فيه، يتعارض بل ويتضارب في كثير من الأحيان مع مفاهيم الدولة وآليات عملها، ما دفع بالحكومة في واشنطن لأن تضع نصب عينها تلك الشركات باعتبارها "هدفا" لا يجب تدميره بطبيعة الحال، لكن من الواجب السيطرة عليه، لذلك تبنت الإدارات الأمريكية والمؤسسات التشريعية مجموعة من الآليات التنظيمية الرامية إلى تقسيم الشركات التكنولوجية الكبرى، أو فرض مزيد من الضرائب والأعباء المالية عليها.
ويعتقد بعض الخبراء أن الدولة الأمريكية وفي طريقها لتنفيذ رؤيتها تلك أضعفت روح تلك الشركات التي بنت قوتها ومنحت وادي السيليكون تفرده ومكانته المرموقة والمميزة من خلال تمزيق أنماط الإدارة والعمل التقليدية، وبذلك أسهمت قوة شركات التكنولوجيا ورغبة الدولة الأمريكية في تحجيمها في اهتزاز واحد من أحجار الأساس الرئيسة في وادي السيليكون.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، آر. دي لويس أستاذ الإدارة في جامعة لندن "تؤثر التنظيمات الحكومية بشكل كبير في صناعة التكنولوجيا، والحكومة الأمريكية لديها مخاوف مشروعة بشأن الاحتكار والمنافسة وهيمنة شركات التكنولوجيا الأمريكية التي تتخذ من وادي السيليكون موطنا لها على المشهد التقني والاقتصادي، ومن الواضح للغاية الآن أن الضغوط التي مارستها المؤسسات التشريعية الأمريكية لتحجيم تلك الشركات قد نالت من روحها بالفعل، إذ يلاحظ أن كثيرا من الشركات ورؤساء مجالس إدارات شركات تعمل في مجال التكنولوجيا يدافعون الآن عن فكرة فرض مزيد من التنظيم الحكومي على تطوير الذكاء الاصطناعي، وهذا يتناقض مع الروح التي أسس عليها وادي السيليكون، عندما كانت شركات التكنولوجيا تميل إلى انتقاد وتجنب التنظيم الحكومي بوصفه قيدا يعوق روح الابتكار".
ويضيف "ربما ينظر بعض إلى سلوك تلك الشركات باعتباره دليل نضج من قبل شركات التكنولوجيا، لكن آخرين قد يعدون هذا النضج دليلا على الشيخوخة أيضا".
يعتقد بعض الخبراء أن التراجع في الثقل النسبي لوادي السيليكون كمركز للابتكار التكنولوجي العالمي يعود إلى التحول الجاري في القطاع التكنولوجي ذاته، فالوادي بنى مكانته سواء داخل الولايات المتحدة أو عالميا عبر التفوق في مجالات تكنولوجية محددة مثل البرمجيات والتقنيات المرتبطة بالإنترنت والإلكترونيات ذات الطبيعة الاستهلاكية، لكن المشهد التكنولوجي يتغير الآن، فقطاعات كالتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية تبرز في أماكن أخرى غير وادي السيليكون.
بروز قطاعات جديدة في مجال التكنولوجيا التي لم تكن متوطنة أو لا تتمتع بوجود راسخ في وادي السيليكون ترافق مع ارتفاع كبير في تكلفة الحياة في الوادي، ما دفع بكثير من الشركات الناشئة إلى البحث عن أماكن جديدة يمكنها تأسيس أعمالها فيها مع تحمل تكلفة معقولة نسبية تساعدها على منافسة الشركات التكنولوجية العملاقة، وقد وجد عديد من الولايات الأمريكية في ذلك فرصة لمنح إعفاءات ضريبية ضخمة لجذب هؤلاء القادمين الجدد، وسط رغبة من قبل تلك الولايات في أن تصبح منافسا لوادي السيليكون يوما ما، وربما يكون قرار إيلون ماسك بأن يتخذ من ولاية تكساس مقرا رئيسا لشركة تسلا نموذجا للبحث عن أماكن أخرى ربما تكون أكثر ملاءمة للأعمال التجارية.
مع هذا يرى فريق آخر من الخبراء أن الأفق المنظور لا يحمل أي مؤشر على بروز مركز تكنولوجي جديد في الولايات المتحدة أو حتى على المستوى العالمي قادر على أن يطرح نفسه كبديل لوادي السيليكون، فالمنطقة تتسم بحيوية غير طبيعية مع تمتعها بأسس اقتصادية قوية على الرغم من الضربات التي تلقتها خلال فترة جائحة كورونا، وما يشهده وادي السيليكون حاليا لا يمكن وضعه في خانة الأزمات، وأنه عملية "تعديل" للهيكل العام للوادي ليكون أكثر قدرة على التكيف من التغيرات المستقبلية في مجال الصناعات التكنولوجية.
آملي روب الباحثة في مجال الاقتصاد الرقمي تعلق لـ"الاقتصادية" قائلة "يضم وادي السيليكون نحو 10 في المائة من الوظائف في كاليفورنيا ويسهم في 13 في المائة تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي للولاية، وإذ نظرنا إلى منطقة أخرى ربما تنافس وادي السيليكون مثل مدينة سان فرانسيسكو التي تقع في ولاية كاليفورنيا أيضا فإن مساهمتها في التوظيف تبلغ 4 في المائة تقريبا وتسهم في الناتج المحلي للولاية بنحو 6 في المائة فقط".
وتضيف "لا شك أن هناك تحديات تواجه وادي السيليكون، لكنه لا يزال يتمتع بالقدرة على إعادة اختراع نفسه والتكيف مع الظروف المتغيرة، نظرا لما لديه من شبكة قوية من الشركات التكنولوجية ورجال أعمال يتمتعون بخبرة عميقة، ورؤوس أموال ضخمة، إضافة إلى المواهب التي أفلح في جذبها في ربع القرن الماضي".
مع هذا تبدو وجه النظر الأكثر تداولا بين الخبراء اليوم أن وادي السيليكون يقف عند مفترق طرق، فالهجوم التنظيمي من قبل الإدارة الأمريكية والمؤسسات التشريعية على شركات التكنولوجيا العملاقة، والتغيرات في البيئة التكنولوجية العالمية، وبروز مراكز منافسة لوادي السيليكون سواء في الولايات المتحدة أو خارجها لا يمكن التقليل من شأن تأثيرها في مكانة الوادي المستقبلية بوصفه أهم مركز للتكنولوجيا على مستوى العالم.
لكن في الوقت ذاته لا يجب على منافسيه أن تأخذهم الأوهام بعيدا، فالمواهب الفريدة المتوافرة في وادي السيليكون، وكونه موطنا لجامعات عالمية تنتج خريجين بمهارات عالية في مجالات التكنولوجيا المختلفة، ووجود نظام مالي يجعل الوفرة النسبية لرؤوس الأموال عاملا رئيسا في تسهيل تمويل الابتكارات الجديدة، ترجح أن يظل الوادي جزءا رئيسا من المشهد التكنولوجي في الولايات المتحدة والعالم لعدة عقود مقبلة.