الآثار السلبية وتبعاتها الطويلة
يبدو واضحا أن المشكلات التي مرت في العام الماضي لن تنتهي في العام الجديد. فبعضها شديد الاتصال والاستمرار حتى في الأعوام القليلة المقبلة، خصوصا تلك التي تترك آثارا أكثر حدة من غيرها في الساحة العالمية ككل. ولا شك أن العالم خرج بكثير من الدروس من تجارب 2023، على المستوى الاقتصادي، لكن ذلك لا يضمن عدم وقوع مشكلات في المستقبل، خصوصا تلك الناجمة عن عوامل طبيعية، التي تضيف مزيدا من الأعباء وعلى فترات طويلة. فضلا عن أن هناك بعض الاقتصادات تحتاج إلى أعوام تتجاوز أعوام العقد الحالي لكي تتعافى من الأزمات التي مرت بها في العام الماضي، وتلك التي ظهرت عمليا مطلع العقد الحالي، وعلى رأسها جائحة كورونا. هذه الأخيرة أربكت المشهد العالمي العام، ولا تزال تربكه بفعل التداعيات التي تركها هنا وهناك.
أزمة كورونا التي اندلعت في 2020 واستمرت آثارها للعام الماضي وستستمر لأعوام مقبلة، ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي بقوة. فقد حملت الاقتصادات الوطنية أعباء كبيرة، بما في ذلك ارتفاع حجم ديونها لتمويل حزم الدعم الهائلة التي بلغت قيمتها "وفق صندوق النقد الدولي" عشرة تريليونات دولار. هذه الأموال تنتقل بثقلها من عام إلى آخر، وترتفع تكاليف خدمتها، ما يؤثر في مسارات التنمية والإنفاق في أغلبية الدول. وغيرت هذه الجائحة "ولا تزال" كثيرا مما كان موجودا قبلها، بما في ذلك أنماط الأداء الوظيفي، وطبيعة عمل المستشفيات، وشكل التعاطي مع الأوبئة بشكل عام. فقط نشرت ثقافة لا تزال تتشكل وستواصل تشكلها لأعوام مقبلة أيضا. وغيرت هذه الجائحة - على الرغم من مرور ثلاثة أعوام على اندلاعها - شكل التعاطي مع سلاسل التوريد المحلية والعالمية، كما أنها فرضت على المشرعين في أغلبية الدول تجنيب مزيد من الأموال لمواجهة الآثار المستمرة لها.
ولا شك أن العام الماضي شهد مزيدا من التوترات الآتية من تفاقم الصراعات الجيوسياسية، إلى درجة استفحال الحرب في أوكرانيا، التي تترك آثارها كل يوم في الاقتصاد العالمي من جهة الطاقة والإمدادات الغذائية، فضلا عن الموجات التي صنعتها من اللاجئين. ولم تهدأ هذه الصراعات على جبهات مثل تايوان وهونج كونج وأرمينا، وغيرها من البؤر الساخنة والأكثر سخونة. ومع نهاية العام الماضي اندلعت الحرب في قطاع غزة، لتضيف مزيدا من الاضطرابات إلى كاهل الاقتصاد العالمي ككل. ورغم أن هذه الصراعات قديمة وستظل مستمرة، إلا أنها استعرت بأشكال مختلفة في العام الماضي. كل هذا ترك "ويترك" آثاره في التجارة العالمية وحركة النقل عموما، فضلا عن سلاسل التوريد التي تمثل دائما هما عالميا.
والمصاعب الاقتصادية التي تفاقمت في 2023، اختلفت بالطبع آثارها من بلد إلى آخر، لكن في النهاية تترك أضرارها على كل الدول دون استثناء، بما فيها تلك البعيدة عن الصراعات والقادرة على مواجهة "الشدائد" المفاجئة أو الاستثنائية. فهناك دول دخلت في تقلبات ستتواصل في العام الجديد، بصورة عميقة عبر نمو منخفض جدا، أو ركود، أو تباطؤ أو هبوط ناعم. فالتقلبات أصابت حتى الاقتصادات المتقدمة، من خلال السياسات المالية التي اضطر العالم لاتخاذها بسبب تصاعد حدة التضخم، وتراجع النمو. وهذه النقطة على وجه الخصوص تعطي مؤشرا واضحا للأوضاع الاقتصادية العالمية في 2024. فلا تزال تكاليف الاقتراض مرتفعة، ما أثر بشدة في مستقبل النمو الذي تحتاج إليه كل الدول لمواجهة استحقاقات المرحلتين السابقة والآتية.
من هنا، يمكن النظر إلى العام الجديد، كعام سيشهد استمرار أغلبية الأزمات التي مرت في العام الماضي وما سبقه. فالآثار الاقتصادية السلبية لا تنتهي عادة بسرعة، لأن تبعاتها طويلة الأمد، خصوصا إذا ما ظهرت في فترة لم يعد فيها للتيسير النقدي وجود على الأقل في المدى المتوسط.