الهند وتغيير مشهدها الاقتصادي بثبات

في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الصيني مآزق جمة -تراجع الصادرات وتآكل ثقة المستثمرين وتباطؤ النمو واشتداد حدة أزمة القطاع العقاري وتراجع الاستهلاك وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب- على نحو ما فصلناه في مقال سابق، نجد أن منافستها الهندية ماضية بثبات في بناء اقتصاد قوي بدليل تحقيقها نموا قويا في ناتجها المحلي الإجمالي وصل إلى 7.8 في المائة في الربع الأول من العام المالي 2023ـ 2024، وهو ما وضع الهند في قائمة الدول الأسرع نموا ضمن مجموعة العشرين الاقتصادية. رغم أن هذه البلاد تسير على الطريق الطريق الصحيح لتحقيق طموحاتها المتمثلة في إيجاد اقتصاد يساوي خمسة تريليونات دولار بحلول 2026ـ 2027، إلا أن هناك ثمة مشكلات تعمل حكومة ناريندرا مودي رئيس الوزراء حاليا على التعامل معها بشكل ديناميكي جدي ومؤثر للحد منها قدر الإمكان، مستخدمة طاقات الهنود الخلاقة الشابة والموارد الوطنية الكثيرة المتاحة والقطاعات الرئيسة ذات التأثير الحاسم. يشكل التضخم إحدى هذه المشكلات، باعثا قلقا مستمرا لدى مخططي الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسات المالية، وهو ما دفعهم إلى علاجه برفع أسعار الفائدة الرئيسة في 2022 مع تنفيذ تدابير مالية أخرى.
من جهة أخرى تركز الحكومة أنظارها وخططها على القطاع الزراعي بوصفه لاعبا محوريا في الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن أنه مصدر مهم للعمالة ومسهم رئيس في الحد من الفقر وضامن للاستقرار المالي الشامل والأمن الغذائي. من هنا أطلقت الحكومة مبادرات وطنية مهمة استهدفت الزراعة المستدامة المرتكزة على استغلال التقدم التكنولوجي من أجل تجهيز القطاع الزراعي الهندي للمستقبل مع الارتقاء بممارسات النقل والتخزين وفق طرق علمية صحيحة. في السياق نفسه شجعت الحكومة على الاستثمار في الزراعة واتخذت تدابير وسياسات إصلاحية هادفة إلى تعزيز إسهامات القطاع اقتصاديا، ليترافق ذلك مع إسهامات القطاع الصناعي الذي بات هو الآخر يلعب منذ أعوام دورا مؤثرا لجهة توليد فرص العمل وتحقيق النمو، حيث تشمل سلة الصادرات الهندية الإلكترونيات والسيارات والحافلات والحديد والصلب والبتروكيماويات والأطعمة والملابس ولعب الأطفال والأثاث.
من المشكلات والتحديات الأخرى، عدا التضخم، مشكلة كيفية الموازنة بين توسيع أنشطة القطاع الصناعي وتعزيز مكانته داخل سلاسل القيمة العالمية من جهة وإدارة فائض القوى العاملة من جهة أخرى، حيث إن القطاع الصناعي الهندي شهد ويشهد ميلا ملحوظا نحو تكثيف الاعتماد على الآلات والتكنولوجيا الحديثة في أنشطته مقابل تخفيض اعتماده على المهارات البشرية، وهو ما أوجد فائضا من العمالة. وتحاول الحكومة اليوم معالجة هذا التحدي من خلال توجيه هذا الفائض نحو الأنشطة الصناعية التصديرية ذات العمالة اليدوية الكثيفة مثل تصنيع لعب الأطفال والأحذية والمجوهرات والأثاث من جهة، من جهة أخرى توجيهه نحو قطاع الخدمات، ولا سيما خدمات البناء والتشييد، خصوصا أن قطاع الخدمات الهندي يوظف نسبة أقل من السكان مقارنة بقطاع الخدمات في دول شرق آسيا.
في الوقت نفسه، تعمل الحكومة الهندية على تدارك المصاعب المستقبلية المحتملة من الانفجار السكاني الهائل التي جعلت البلاد اليوم تتخطى الصين لجهة عدد السكان، وذلك بإيجاد فرص عمل جديدة من خلال التدريب وتنمية المهارات، بل تقديم حوافز مالية للانخراط في برامج المهارات، مع دعم الشركات الناشئة في صورة تبسيط إجراءات تسجيلها وإعفائها من بعض الضرائب وتأسيس صناديق مختصة لمساعدتها.
لعل ما يبشر بصمود الاقتصاد الهندي ومضيه قدما نحو تحقيق طموحاته دون عثرات، أن الحكومة الاتحادية أطلقت منذ 2015 برامج ومبادرات لافتة للنظر لإيجاد بيئة مواتية قادرة على دمج اقتصاد البلاد مع آليات الاقتصاد العالمي، ومنها برنامج الهند الرقمية الهادف إلى تحويل الاقتصاد الهندي إلى اقتصاد معرفي وتوسيع البنية التحتية الرقمية وتعزيز خدمات الحكومة الإلكترونية، وهذا عامل مهم في جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة وإيجاد نحو ستة ملايين فرصة عمل جديدة خلال الأعوام الخمسة المقبلة.
نخالة القول: إن التآزر بين المبادرات والسياسات الحكومية من جهة، وطاقات القوى العاملة الديناميكية الشابة "أكثر من 52 في المائة من الهنود تحت سن الـ30" من جهة أخرى، كفيل بإيجاد أوضاع تحد من المشكلات الآنية والمستقبلية وترسخ موقع الهند الاقتصادي عالميا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي