لا نقصد هنا الروائح بشكلها الرومانسي أو العاطفي الذي يربط بين الروائح وذكريات الأماكن الجميلة، إنما عن روائح الأماكن ودلالاتها الغريبة. هل فكرت يوما في رائحة الفضاء الخارجي، وهل له رائحة أساسا؟ يقول الكاتب في إي إم فوستر في روايته الغرفة المطلة التي نشرت 1908، إن كل مدينة لها رائحة خاصة وهذا بالفعل ما أثبته العلم لاحقا، فحتى الفضاء الذي نعتقد أن لا رائحة له بسبب عدم وجود وسط ناقل فالفضاء عبارة عن فراغ، فرائحته تشبه رائحة مادة الإيثيل فورميت.

وفي الواقع لا يمكن شم رائحة الفضاء مباشرة وإنما يتم ذلك عندما تلتصق جسيمات الرائحة الطافية في الفراغ ببدل رواد الفضاء وعندما يدخلون في غرف معادلة الضغط يشمون رائحة الفضاء. رائحة نفاذة تشبه رائحة البارود المحترق، ومن إبداعات "ناسا" أنها حاولت محاكاة تلك الروائح على الأرض كجزء من تدريبهم لرواد الفضاء في المستقبل!

وحتى الكواكب لها روائح مميزة استطاع العلماء توقعها اعتمادا على التركيب الكيميائي لغلافها الجوي، حيث تنبعث رائحة البيض الفاسد من كوكب الزهرة بسبب سحب حمض الكبريتيك في الغلاف الجوي، وبالمثل فإن ثاني أكسيد الكبريت وكبريتيد الهيدروجين هما سبب رائحة المريخ وأورانوس. أما كوكب المشتري فتعتمد رائحته التي ستشمها في الفضاء على مكان وجودك، لأن كل طبقة من غلافه الجوي تتكون من مواد كيميائية مختلفة، في بعض الطبقات ستشتم رائحة اللوز المر اللذيذ بسبب سيانيد الهيدروجين، بينما في الطبقات الأخرى القريبة من القمة ستشتم رائحة الأمونيا الكريهة. تظهر رائحة السيانيد التي تشبه اللوز بشكل طبيعي في الأزهار مثل الياسمين.

ومن السماء في الحاضر إلى الأرض في الماضي فالكولوسيوم الروماني الذي كان يعج بالجماهير التي تأتي لحضور العروض الدموية بين الأسرى بعضهم بعضا، أو بينهم وبين الأسود والفهود المتوحشة، وصرخاتهم وهتافاتهم التي تحض اللاعبين على إزهاق الأرواح البشرية، ولإخفاء رائحة الموت التي تطغى على المكان، كانت هناك أنابيب مخفية ترش باستمرار الماء المعطر بالزعفران.

أما المعابد المصرية فقد كانت رائحتها مزيجا مميزا من البخور والمر التي تقابلك عند دخولك المكان تختلط مع رائحة أزهار اللوتس والقصب ونباتات المستنقعات برائحتها الكريهة، هذا المزيج يولد لدى الزائر أحاسيس مختلفة بين الرجاء والخوف تجعل تلك الروائح ترسخ في ذاكرته...إنها رائحة الأماكن التي ترسم صورا ذهنية لحكايات حدثت هناك.