قمع المحتوى .. الخوارزمية سلاحا
أحد أهم التكتيكات العسكرية في الحرب هو السعي إلى إسكات مصادر النيران التي يطلقها العدو. إن أفلحت العساكر في ذلك، تكون قد مهدت السبيل إلى النصر. وإن لم تفلح فمعناه أن العدو نشط وله المقدرة على إدارة دفة المعركة ورد الصاع. لا يقاس الصاع كميا، أي بكثافة قوة النيران. ولا يقاس الصاع بكمية السلاح المتاح للاستخدام. ما دام من نراه عدوا قادرا على الرد، وبأي أسلوب كان، معناه أن سلاحه لم ينفد وأن هناك جندا خلفه.
الأقوياء وأصحاب السلطة والمال والسلاح الفتاك دائما يتبجحون بسطوتهم وأن في مقدورهم دحر الضعفاء من الآخرين. هؤلاء يقعون في خانة الفئة الكثيرة التي تنسى أن دحرها ممكن وفي المتناول إن عزمت فئة قليلة أمرها وقاومت بطشهم. التاريخ، القديم والمعاصر، ومنه ما عشناه، مليء بأمثلة الفئة القليلة الضعيفة وهي تدحر الفئة القوية الكثيرة.
يخطئ من يقول إن الفئة القوية المستقوية بعساكرها ومالها وسطوتها تكتفي بما تكدسه من سلاح وما تخترعه وتنتجه من أدوات القتل والدمار. كلما زاد تطور وتمدن الإنسان وزاد اكتسابه العلم والمعرفة والحكمة أيضا، زاد غوصه في ميدان إيجاد واستنباط أسلحة تفوق ما سبقها من حيث قابلية القتل والتدمير. بيد أن الإنسان له غلو فظيع في تكديس الأشياء ليس من المال والسلاح والسطوة وحسب بل في فرض الهيمنة إن تمكن منها.
والهيمنة أشكال، منها ما ينحصر في سيادة واستعمار واستعباد الآخرين، ومنها ما يتعلق باختراع أدوات تعزز الهيمنة هذه وتزيد من وقعها وتأثيرها ومن ثم تقف سدا منيعا في وجه من يعاديها أو ينافسها.
وأصحاب الهيمنة وما أدراك ما أصحاب الهيمنة، يلجأون إلى أي سبيل مهما كان شائنا للحفاظ على هيمنتهم. كل شائن في نظرهم حسن إن كان لهم مصلحة فيه، وكل حسن شائن إن عاكس مصالحهم.
بعد أن وضعنا بعض الفرضيات بأسلوب مبسط حول ما للقوي وما للضعيف في عالمنا الخالي تقريبا من العدالة والمساواة، أي القوي قد يأكل الضعيف دون أن يرف له جفن لو استطاع إلى ذلك سبيلا، نسعى الآن للتحقق من هذه الفرضيات مستشهدين بعدد من الأمثلة، ومركزين على الخوارزميات.
الأقوياء أصحاب الهيمنة لا يتورعون عن اللجوء إلى أي وسيلة لبسط سيطرتهم والوصول إلى غايتهم. أي وسيلة يستخدمونها للوصول إلى مبتغاهم تبرر الغاية لديهم.
ولأن هيمنتهم ليست محصورة في السلاح والعساكر بل تعدت إلى المال والصناعة والتجارة، تراهم يوظفون كل ما لهم سيطرة عليه إن كان سلعة أو عملة أم صناعة أو خوارزمية أو غيره مثلما يوظفون السلاح في المعركة.
السلاح مادة من مواد الحرب، ليس إلا. وانظر كيف يفعل أصحاب الهيمنة بخصومهم. ألم يجعلوا من الحصار الاقتصادي بأشكاله المختلفة سلاحا؟ ألم يجعلوا من أي سلعة يسيطرون عليها سلاحا؟
هل أتاكم حديث الحصار وكيف يحاول أصحاب الهيمنة حتى تجريد الأطفال من الحليب؟
من ناحية أخرى، ألم يأتكم حديث أصحاب الهيمنة حول عدم جدوى أو بالأحرى عدم أخلاقية استخدام السلع الاستراتيجية سلاحا من قبل دول غير مهيمنة لتحقيق حد أدنى من مصالحها ومصالح شعوبها؟
وآخر سلاح سلعي يقع في يد الدول المهينة كان سلاح الخوارزمية، وهذا في الحقيقة أفتك سلاح عصري، من يمتلك ناصيته يمتلك ناصية العالم.
لن أدخل في صلب موضوع الخوارزمية شرحا أو تفصيلا، سأترك الموضوع إلى المقبل من الأيام، لكن علي تذكير القراء الكرام أن الخوارزمية فكرا واختراعا ولفظا عربية أو بالأحرى إسلامية المنشأ. أول خوارزمية عرفتها الدنيا استنبطت في بغداد على يد محمد بن موسى الخوارزمي، العالم العربي والإسلامي الشهير.
كيف ولماذا وصلت الخوارزمية إلى وادي السيليكون في الولايات المتحدة ومن هناك وبوساطة الخوارزمية ظهرت شركات تريليونية "أي إن قيمتها السوقية تفوق 1000 مليار دولار"، هذا شأن قد نتناوله مستقبلا.
أود في هذا المقال التأكيد أن هناك في الأقل حاليا خمس شركات تريليونية خوارزمية عملاقة تدار آليا، أي خوارزميا. وانبرت هذه الشركات تتحكم خوارزميا فيما هو متاح لبلايين البشر من "قل ولا تقل"، تحذف ما لا تستسيغه من كلام وتبقي على ما تستسيغه من كلام.
تحكمت في الخطاب المتداول حول الحرب المجنونة التي تشنها إسرائيل على غزة في مسعى لإعلاء شأن صوت الأقوياء المهيمنين على الساحة وتهميش صوت الضعفاء، ما أتاح المجال كي يسود التضليل والكذب والخداع والغش ساحة المعلومات مثلما تسود أسراب الطائرات الحربية للقوى المهيمنة سماء المعركة.