Author

الرؤية الغربية لتقييم الحروب

|
أستاذ جامعي ـ السويد

مضى شهران على الحرب في غزة. والحروب تترك دمارا مهولا وضحايا أبرياء كثر وتعاكس وتنتهك لا محالة أبسط القواعد الدولية الإنسانية التي وضعها البشر لإضفاء منطق إنساني على أمر غير منطقي إنسانيا، ألا وهو الحرب.
أن نضع قوانين أو قواعد إنسانية لإدارة شأن غير إنساني أو بالأحرى بربري هذا لعمري يضرب إنسانيتنا في الصميم.
لم تقع حرب إلا وكل طرف فيها يدعي أنه الضحية أو المعتدى عليه، وأن حربه عادلة وتقع ضمن القواعد والقوانين الدولية التي تحدد قواعد الاشتباك والسلاح ونوعيته، وأين وكيف يجب استخدامه؟ هناك فلاسفة للحروب، أي لدينا مفكرون ينظرون ويشغلون العقل كي نستوعب ونفقه لماذا وكيف يلجأ الإنسان إلى شن الحرب واستخدام قوة السلاح وسيلة لتحقيق الهدف أو الغاية.
سأترك الجانب الفلسفي أو الفكري للحروب جانبا، وسأركز على عنوان مقالنا لهذا الأسبوع الذي أراه من الأهمية بمكان.
عدة الحروب لا تقتصر على الجند والسلاح. كل حرب، كما يقول فلاسفتها، يسبقها ويرافقها كلمة أو كلمات، والكلمة أكثر فعلا ووقعا من السيف، حسب الفلاسفة. ويبني كل طرف في الحرب سورا أو جدارا ليس من الأسلحة والستائر والمرابض وحسب بل من الكلمات. فكما أن السلاح غايته حماية الجند وما ينتمون إليه أولا ومن ثم ضرب ما يرونه عدوا بأقسى ما يمكن، كذلك الكلمات التي عادة تشكل سياجا تحتمي خلفه الأطراف المتصارعة. وهناك من الكلام ما يتحول إلى سردية، بمعنى أنه صار يشكل الواقع الاجتماعي. وأشرح أكثر وأقول إن الكلام ما هو إلا ترجمة للواقع، والواقع ما هو إلا تطبيق للكلام.
وقد يتساءل القارئ اللبيب: ما دور الرؤية الاستشراقية في هذا؟ قبل أن نجيب، علينا أن نعرف ما هو الاستشراق؟
الاستشراق علم قائم بذاته. باختصار شديد يشير الاستشراق إلى الدراسات التي أجراها ويجريها الباحثون والعلماء الغربيون لدراسة وفهم ثقافات وديانات ولغات الشعوب غير الأوروبية. ما يؤخذ على هذه الدراسات أن أغلبها ينطلق من نظرة استعلائية أو استعمارية ترى في أوروبا، الغربية منها خصوصا، قيمة إنسانية سامية، بينما ترى في الأمم الأخرى قيمة أدنى ثقافة وتمدنا وسلوكا وتصرفا.
هناك من المفكرين والفلاسفة من قام بتفكيك الرؤية الاستشراقية هذه، وصار لأبحاثهم ومؤلفاتهم صدى طيب، بيد أنها مع الأسف الشديد، أخفقت حتى الآن في إحداث تغيير جوهري على الكلام والتصرف في الأروقة الغربية السياسية والعسكرية والإعلامية.
ظهرت هذه الرؤية الاستشراقية بصورة فاضحة في الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، حيث إن الانتقام المروع من كل شيء، البشر والشجر والماء والحجر والطعام، هو رائد أشرس حملة عسكرية عرفها التاريخ الحديث ضد قطاع جغرافي صغير جدا يقطنه أكثر من مليوني فلسطيني.
في ساحة المعركة هناك أدلة واضحة على أن للإسرائيلي قيمة إنسانية أسمى من الفلسطيني، ولهذا لا يحرك الغرب ساكنا كي يوقف نزيف الدم والدمار الذي تلحقه الآلة العسكرية الإسرائيلية المهولة بالسكان من المدنيين والممتلكات من بيوت الناس وبنى تحتية من شوارع ومدارس ومستشفيات وخدمات أساسية من ماء وكهرباء وغذاء التي حسب القواعد والقوانين الإنسانية التي وضعها الغرب ذاته لسير الحروب لا يجوز المس بها.
الحروب التي يشنها الغرب أو التي يساندها دون مسألة مثل الحرب على غزة فيها من الرؤية الاستشراقية ما يوقف شعر الرأس. وقس على هذا المنوال كل الحروب والحملات التي شنها الغرب في العصر الحديث. ما لنا وساحات المعارك وعملياتها التي كأنها تقع أمام ناظرنا للواقع الافتراضي والرقمي الذي تمنحه لنا الأجهزة الخوارزمية العصرية التي تسهل لنا التأشير إلى ازدواجية المعايير والنفاق والظلم الذي يرافق حروبا مثل هذه. ما يهمني أنا شخصيا هو الرؤية الاستشراقية الغربية في الكلام لتوصيف هذه الحرب حيث ينتقلون من سردية موبقة إلى أخرى وإلصاقها بالفلسطينيين ومنظماتهم في غزة. وحال أن يظهر بطلان وزيف الموبقة ينتقلون إلى أخرى مستخدمين صورا ثابتة أو متحركة، وسرعان أيضا ما يظهر بطلانها.
فالفلسطينيون ومنظماتهم يقطعون رؤوس الأطفال ويقتلون النساء والشيوخ ويستخدمون العنف الجنسي ليس ضد النساء بل الرجال أيضا ويضطهدون المرأة، حسب جريدة بريطانية شهيرة، يأتون بكل هذا دون دليل ملموس، بل استنادا إلى ما تقوله إسرائيل.
إن صحت موبقات مثل هذه يجب إدانتها بشدة، بيد أن الرؤية الاستشراقية دائما تبرئ ساحات الغربيين ومن بمعيتهم مثل إسرائيل لأنهم ـ حسب ادعائهم ـ أسمى خلقا وإنسانية ولا يقترفون الموبقات، وينسون أنهم دول ودساتير وتمدن وحضارة والفلسطينيون مجرد منظمات وأفراد يقبعون تحت نير حصار واحتلال خانق مضى عليه أكثر من 70 عاما. من إذن تجب محاسبته أولا؟ حسب الرؤية الاستشراقية الظالمة، الفلسطينيون.
وأنا أضع اللمسات الأخيرة لهذا المقال تذكرت زميلا بريطانيا وهو أستاذ الإعلام في جامعة كلاسكو، كان قد أجرى بحثا على مستوى بريطانيا فيه استبيان من أسئلة عدة، واحد منها يستفسر من المشاركين إن كانت إسرائيل هي من تحتل الأراضي الفلسطينية أم الفلسطينيون هم الذين يحتلون الأراضي الإسرائيلية. الجواب كان صاعقا، حيث أكد أغلب المشاركين أن الفلسطينيين هم الذين يحتلون الأراضي الإسرائيلية. هذا نتاج الرؤية الاستشراقية الغربية التي تلصق الموبقات بالآخرين وتحملهم وزر ما يقترف من موبقات بحقهم.

إنشرها