Author

«نجدة» النمو آتية من آسيا

|
كاتب اقتصادي [email protected]

لا يزال الاقتصاد العالمي في مرحلة التعافي، وستتواصل هذه المرحلة في العامين المقبلين على أقل تقدير. فالمصاعب التي مر بها هذا الاقتصاد كانت كبيرة، ولا تزال مستمرة، سواء من ناحية مواجهة الموجة التضخمية الراهنة، أو من تبعات الحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا، فضلا عن المشكلات التي لم تنته تماما على صعيد سلاسل التوريد، وتفاقم المواجهات الناجمة عن الخلافات الجيوسياسية. أمام هذا المشهد، الذي تحسن كثيرا عما كان عليه في العام الماضي، تتركز الأنظار على مستويات النمو المتوقعة في العام المقبل، التي لا بد أن تكون مقبولة لضمان اجتياز الاقتصاد العالمي مرحلة التعافي الصعبة. القلق بشأن النمو وروابطه وسع دائرة عدم اليقين التي تعمقت كثيرا، في أعقاب انفجار جائحة كورونا، على الرغم من خروج العالم من آثارها الصحية على الأقل.
النمو الاقتصادي العالمي لن يأتي من جهة الغرب، وهذا أمر بات معروفا حتى قبل كل المشكلات التي مرت في الأعوام الماضية. ففي العقود الثلاثة الماضية، كانت آسيا ودولها الناشئة المحرك الأول لهذا النمو، وكانت الصين تحقق قفزات نوعية على هذا الصعيد، بحيث بلغت نسبته 10 في المائة في بعض أعوام تسعينيات القرن الماضي، لينخفض بعد ذلك إلى 7.5 في المائة، ومع ذلك كان الأعلى على الإطلاق، وفي مرحلة لاحقة انضمت الهند إلى مسيرة النمو السريع والمرتفع، لتشكل قوة دفع أخرى في هذا الميدان، مع ارتفاعات لافتة للنمو في عدد كبير من الدول الآسيوية الناشئة. في العقدين الماضيين كان "الشرق" الجهة الأكثر توليدا للنمو، لأسباب عديدة في مقدمتها استكمال عملية البناء الاقتصادي التي توفر ساحات واسعة للعمل وللإنتاج، فضلا عن تسهيلات دولية تمتعت بها هذه الدول ولا تزال، في إطار السياسات العالمية لدعم الاقتصادات الناشئة عموما.
مع الأزمة الراهنة التي تفاقمت منذ مطلع العقد الحالي تحديدا، ظلت الآمال معلقة على الاقتصادات الآسيوية الناشئة في رفد الاقتصاد العالمي بمزيد من النمو. فصندوق النقد الدولي، أبقى على توقعاته للنمو للعام الجاري عند 3 في المائة، ووضع 2.9 في المائة حدا للنمو المتوقع في العام المقبل. وهذه النسبة تعد مرتفعة حقا، لو أخذنا في الحسبان مؤشرات الضعف المسجلة لدى كثير من الاقتصادات حول العالم. إلا أن "نجدة النمو"، ستأتي من آسيا، خصوصا أن مؤسسة عالمية مثل "ستاندر آند بورز" الأمريكية للتصنيف الائتماني، توقعت نموا في الصين يبلغ 5.4 في المائة، و5.5 في المائة في العام المقبل، وهذا يتوافق مع الرسمي الصيني المستهدف للنمو بشكل عام. علما بأن توقعات "صندوق النقد" سجلت نسبة أقل عند 4.2 في المائة في العام المقبل.
بصرف النظر عن الفارق، ستكون الصين أكثر الدول الآسيوية تسجيلا لنمو مرتفع في العامين المقبلين على الأقل، رغم المشكلات التي يواجهها بعض القطاعات على الساحة المحلية، ولا سيما العقارات التي تمر بواحدة من أشد الأزمات حقا. وإذا ما استفحلت، ستكون لها آثارها العالمية، وإن كانت محدودة مقارنة بتلك التي ضربت الولايات المتحدة في 2008. في المنطقة الآسيوية سيكون النمو مقبولا على الرغم من أن وكالة التصنيف الأمريكية خفضت توقعاتها في العام المقبل للمنطقة المشار إليها إلى 4.2 في المائة. هذه أيضا نسبة جيدة إذا ما نظرنا إلى المشهد العام بنظرة شاملة. فمع الصعوبات التي مر بها القطاع الإنتاجي وأثرت في الصادرات، عادت عجلة الإنتاج بالفعل إلى مستويات قريبة من تلك التي كانت سائدة في الأعوام الأخيرة من العقد الماضي.
في مقابل ذلك تواجه الاقتصادات الغربية الكبرى مصاعب اقتصادية، على الرغم من أنها تمكنت في غضون أقل من عامين من السيطرة على التضخم، إلا أنها لم تستطع حتى اليوم جلبه إلى المستوى الأقصى الرسمي عند 2 في المائة. ولا شك في أن الرفع المستمر للفائدة ضغط على مسار النمو في هذه الدول، التي تركت الباب مفتوحا لأي رفع جديد لتكاليف الاقتراض إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك في المستقبل القريب. فحتى الولايات المتحدة التي تقدمت على بقية الدول الغربية في سرعة السيطرة على التضخم، تواجه حاليا مخاطر عودة تكاليف المستهلكين إلى الارتفاع. هذه الأجواء تترك الساحة للاقتصادات الآسيوية بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، للمساهمة مع الدول الناشئة في القارة لنمو ملحوظ، خصوصا بعد أن توقف التراجع في وتيرة التصنيع في الآونة الأخيرة.
فالطلب المحلي في هذه الدول عاد إلى الارتفاع، مع نمو واضح لقطاع الخدمات، ما يعزز مسار النمو بشكل عام. بالمحصلة، ستبقى المنطقة الآسيوية المحرك الرئيس للنمو العالمي، حتى ولو كان هذا النمو في الصين يستند على الأقل في المرحلة الراهنة، إلى حزم الدعم الحكومية الكبيرة التي أسهمت في وقف التدهور الناجم عن الأزمات المختلفة المحلية منها والعالمية. مع ضرورة الإشارة، إلى أن حجم الصادرات من الصين وغيرها في المنطقة الآسيوية تحسن في الربع الثالث من هذا العام، في ظل مؤشرات تدل على مواصلته الارتفاع في العام المقبل.

إنشرها