التطورات التقنية تزيد من ضيق الوقت
الشعور بضيق الوقت في عصرنا يبدو كاللغز. لماذا؟ ساعات العمل في وقتنا أقل مما كان سائدا لدى أسلافنا. قبل أكثر من قرن من الزمان، كان الناس عامة وفي الغرب خاصة يطالبون بثماني ساعات عمل في اليوم. وقد حصل ذلك في القرن الماضي الـ20، بل صارت ساعات العمل في جهات كثيرة أقل من ثماني ساعات. وبدأت في التطبيق لدى بعض الجهات إجازة يومين في الأسبوع، لكن هل أحس الناس بزيادة وقت الراحة والفراغ؟
لا يبدو ذلك، لكننا لا نشعر بذلك حسيا. ويزيد من الإحساس بضيق الوقت مع زيادة التطورات التقنية في العقود الأخيرة. ويدعم هذا الكلام أدلة، منها بيانات من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقول إن متوسط الوقت الذي يقضيه الناس في الراحة انخفض منذ الثمانينيات من القرن الماضي. أما في القرن الحالي الـ21، فقد تقلص متوسط وقت الراحة الذي يقضيه كل فرد من الناس من حيث المتوسط. انخفض في دول تتوافر عنها بيانات، على سبيل المثال، انخفض 14 في المائة في كوريا، و11 في المائة في إسبانيا، و6 في المائة في هولندا، و5 في المائة في المجر. أما في الولايات المتحدة فقد انخفض قليلا أقل من 2 في المائة. ويبدو أن لضخامة مساحة أمريكا أثرا في الانخفاض.
ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون مما يسمى "فقر الوقت". وهم حسب تعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD الذين تقل نسبة الوقت المخصص لغير العمل وغير الأنشطة الجدية لديهم دون المتوسط عن 50 في المائة.
أحد العوامل هو استقرار الانخفاض في ساعات العمل الأسبوعية. توقف متوسط ساعات العمل الأسبوعية المعتادة عند نحو 40 ساعة للموظفين بدوام كامل في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منذ تسعينيات القرن الماضي. لكن هذا وحده لا يمكن أن يفسر الانخفاض في أوقات الفراغ.
ظهرت دراسات استطلاعات في مقارنة استخدام الوقت. وتبين تلك المقارنات وبياناتها أنه حصلت تغيرات وضغوط على أوقات الفراغ في عديد من الدول كبريطانيا. وانتهت الدراسات إلى تعرض النساء إلى الضغط أكثر من الرجال. ذلك أنه في سبعينيات القرن الماضي، كانت ساعات الفراغ اليومية في حكم المتماثلة لدى كل من الرجال والنساء في سن العمل. أما بعد ذلك، فقد لوحظ أنها لدى الرجال أكثر بين نصف ساعة إلى ساعة يوميا، مقارنة بالنساء.
لماذا؟ أجور النساء من جهة صارت أكثر مما كانت عليه الحال في السبعينيات، وصار الرجال يقومون بأعمال منزلية أكثر. وحصل اختلاف في مقدار الوقت المخصص لدى النساء والرجال في رعاية الأطفال. ووقت هذه الرعاية لا يصنف ضمن وقت الفراغ، صارت النساء يقضين وقتا في هذا القرن أكثر مما كن يقضينه في رعاية الأطفال من قبل. حصل ذلك، رغم أنهن صرن يعملن بأجر لساعات أطول.
التطورات في سوق عمل النساء يطرح سؤالا عن أوقات العناية بالأطفال. من الأجوبة أن لعب الأطفال خارج منازلهم زاد.
طبعا حصلت تغيرات في أمور رعاية الأطفال. قبل عقود، كانت رعاية الأطفال في كثير من الأحيان شيئا يحدث أيضا أثناء ممارسة الأعمال المنزلية أو التواصل الاجتماعي، في حين أنها الآن تبدو كأنها نشاط في حد ذاته.
التطورات التقنية ساعدت على حصول ما حصل. التطورات التقنية ساعدت على أداء الفرد لمهام متعددة في وقت واحد. وصار تقسيم الوقت بين العمل واللهو أكثر صعوبة. مثلا، تشاهد التلفزيون وتتفقد البريد الإلكتروني الخاص وغير الخاص، وتراجع أمورا خاصة بالعمل. والنتيجة اختلاط الفراغ والعمل واختلاط ما يخص العمل وما لا يخصه.
بشأن الأعمال المكتبية، معروف أن كثيرا منها صار يؤدى من خلال العمل بالمنزل. لكن العمل من المنزل سمح للناس بتقليل وقت الانتقال للعمل. لكن توسع المدن وازدحامها قضى على بعض هذه الميزة.
تكثر في بعض الدول المطالبات بتقليل أكثر في أيام وساعات عمل أقل. وسمحت اتفاقات في بعض الدول خاصة الغربية على فرصة للعاملين بتفضيل ساعات عمل مخفضة على رواتب أعلى.
باختصار، يشهد العالم تغيرات وتحولات جذرية امتـدت مـن الأفـراد ثـم المنظمات حتى شملت الحكومـات أخيرا، وذلـك نتيجـة للثـورة التقنيـة والمعلوماتية المتسارعة. ولكل ذلك تأثيرات واسعة على ما يخصص من وقت للعمل وغير العمل. زاد وقت الفراغ لكن فائدة هذه الزيادة ضاع كثير منها، حيث محقت جزءا كبيرا منها عوامل أخرى.