نظرة عميقة للحوكمة .. تنظيم مجالس الإدارات
طالما تحدثت عن الهوس الرقابي، وأيضا الحوكمة، وتوسع دور المراجعة الداخلية، وهدر نماذج جودة الأداء. ولأهمية هذا الموضوع أعيد النقاش حوله. وبداية فإن أي منشأة إنما هي مجموعة من العقود، أهمها تلك التي بين طرفين، المانح للأموال، ومن يدير هذه الأموال، أو الوكيل والأصيل، من يمنح الأموال له أهداف يريد تحقيقها، ومن يدير الأموال له منافع يريد الفوز بها، في مرحلة ما "إذا تم فصل الإدارة عن الملاك" يحدث تعارض بين أهداف المانحين للأموال مع منافع المديرين، لذلك تم ابتكار الرقابة الداخلية "تكلفة الرقابة".
هذا، باختصار شديد جدا، هو تفسير نظرية الوكالة التي تم تقديمها منذ منتصف القرن الماضي، التي شرحت التبريرات الاقتصادية لوجود وظائف كثيرة من بينها وظيفة المراجع الخارجي وكل أنظمة الرقابة الداخلية. والقاعدة الأساسية أن لكل رقابة تكلفة، فهي ليست مجانية، وكل منشأة عبارة عن مجموعة من العقود القانونية التي تفرض مسؤوليات، وكل مسؤولية لها تكلفة على من يتحملها ولذلك يطالب بالتعويض، وعلى هذا فكل إجراء رقابي له مسؤولية، وكل مسؤولية يقابلها شخص أو آلة، وكل شخص يطالب بالتعويض.
لذلك كان كثير من الشركات يتجنب الدخول في تعقيدات الرقابة الداخلية تجنبا لتكلفتها، حتى اضطرت الولايات المتحدة في 2000 إلى فرضها بقوة نظام سيبربنس أوكسلي. لقد كان واضحا قبل ذلك التاريخ أن الشركات والمنشآت التي يكون فيها مجلس الإدارة هو المانح للأموال وهو الذي يتولى المهام التنفيذية أيضا "من خلال العضو المنتدب أو جمع وظيفة الرئيس التنفيذي مع وظيفة رئيس مجلس الإدارة" فإن مثل هذه المنشآت تسعى لتجنب تكلفة الرقابة، ما قد يجعلها في مرحلة ما تقدم مصالح أشخاص مجلس الإدارة على بقية المساهمين في السوق المالية، وهم غير القادرين على التأثير في القرار، ولذلك تم فرض تكلفة الرقابة.
هذه المقدمة وإن كانت طويلة لكنها مهمة، لنعرف أن أي إجراء رقابي إضافي هو في الحقيقة تكلفة إضافية، لذلك لا بد من تبريرات كافية لها، وليس مجرد "ممارسة شائعة أو أفضل الممارسات دون تمحيص كاف لمعنى كلمة (أفضل) هنا"، فنماذج العمل الحالية التي انتشرت أخيرا تضع لكل هيئة أو مركز أو مجلس مختص "مجلس إدارة"، إضافة إلى الجهاز التنفيذي، على أساس أن في هذا "تمثيلا" كافيا لمفهوم مشكلة الوكالة، فمجلس الإدارة يعبر عن أصحاب المصلحة "مانحي الأموال" بينما الإدارة التنفيذية تمثل الوكيل، ولذلك فإن تطوير أنظمة الرقابة الداخلية يعد أمرا بالغ الأهمية، لكن ما تمت ملاحظته هو تضخيم هذه التكلفة بشكل غير مبرر، فكثير من الجهات ليس أكثر من مراكز صغيرة، أو مؤسسات لها ميزانيات محدودة ومهام محددة، فالعلاقات القانونية "العقود التي بين الطرفين ـ الوكيل والأصيل ـ ليست معقدة، وليس هناك تعارض في المصالح يمكن وصفه بالمهم"، وفي مثل هذه المنظمات فإن وجود هيكل تنظيمي واضح العلاقات يتضمن إدارات لجميع أنواع رأس المال المستخدمة "البشرى والمالي والمادي" مع وجود خطة استراتيجية واضحة تتضمن أهدافا ومبادرات معدودة ومؤشرات مصممة جيدا، فإن مثل هذا النظام الرقابي "كاف جدا"، في ظل وجود ديوان المحاسبة، والمراجع الخارجي، ووزارة المالية إضافة إلى الأدوار الأخرى لمؤسسات إشرافية خارجية مثل هيئة الأمن السيبراني ومركز قياس الأداء.
فليس هناك داع أبدا، ولا مبرر اقتصادي لوجود المراجعة الداخلية في هذه المنظمات والمركز والمؤسسات المجتمعية "هذه تكلفة لا حاجة إليها"، والأسوأ أن يتم توسيع النطاق الرقابي ليشمل تشكيل لجنة للمراجعة ولجنة تنفيذية ولجنة مكافآت ولجان أخرى مثل الاستثمارية وغيرها، وهذه تتضمن تكاليف لا حصر لها وترتيبات عمل كثيرة ومحاضر وغيرها، أقول إن مثل هذا التضخيم "ليس له ما يبرره أبدا"، وأنا أنصح هنا بأن يتم تكليف جهة مثل هيئة مكافحة الفساد أو الديوان العام للمحاسبة بتنفيذ دراسة واسعة لقياس مدى الحاجة إلى مثل هذه اللجان والإدارات التي لا أهمية لها أو مبرر من نظرية الوكالة، بل هي تتسبب في تأخير وتعطيل وإطالة الإجراءات، وفي كثير من الأحيان قد نكتشف أنه "لا داعي لمجلس الإدارة"، في المراكز والجهات التي ترتبط بالوزراء الذين لهم حقائب وزارية، فمشكلة الوكالة ليست "قائمة أصلا" أو ليست بذلك الوضوح، ولا هناك "أصحاب مصلحة" ممن يمكن تصنيفهم "مانحين"، فوجود علاقة مباشرة واتصال سريع للقرار بين الوزير والرئيس التنفيذي مهم جدا، ومعزز للنجاح، والإنجاز، فلا وقت نضيعه في نقاشات اللجنة التنفيذية أو لجنة المراجعة أو الاستثمار، ثم العودة مرة أخرى لمناقشته في مجلس الإدارة الذي قد لا يجتمع إلا بصعوبة بالغة، وإذا لم يتم اتخاذ القرار في المجلس لأن هناك قلقا لدى البعض من تحمل مسؤولية قرار لم يشاركوا في إعداده، فسيتم تأخير القرار لعدة أشهر، لا معني لكل ذلك في وجود خطة استراتيجية، هي أفضل خط رقابي وأقلها تكلفة، مع وجود نظام الرقابة الداخلية "سهل ممتنع" بوجود صلاحيات واضحة وإدارات تم تعيين مديريها بموافقة الوزير، هذا نظام فعال في وجود الحد الأدنى من الرقابة الخارجية "المراجع الخارجي المستقل وديوان المحاسبة"، وفي رقابة إضافية لمجلس الشورى، لذلك أنصح بإعادة النظر في وجود مجلس إدارة ولجان منبثقة ومراجعة داخلية، هي من فضول العمل الرقابي، وهي تكلفة لا محل لها من الإعراب في عديد من الجهات.
ويجب التأكيد أن هذا القول هو أساس نظرية الوكالة ومبرر تكلفة الرقابي، وهذا صحيح تماما وفقا للنظرية في شأن الجهات والمراكز والهيئات صغيرة الحجم، وذات الميزانيات المحدودة، بينما قد يتم توسيع العمل الرقابي وإدخال نقاط رقابية كبيرة وتوسع النطاق الإشرافي لمجلس الإدارة وتضمين إدارات مثل الأمن السيبراني والمراجعة الداخلية واللجان المنبثقة من المجلس، لكن في هيئات ومؤسسات لها موارد تبرر مثل هذا الإنفاق.