الديون .. التهديد الأكبر

تضغط الديون العامة بقوة على الاقتصادات المدينة، وتهز بقوة أكبر في الدول التي تعاني أصلا مشكلات اقتصادية متنوعة، بما في ذلك تراجع النمو، والعجز في عملية ضبط سياستها المالية عموما. والديون ليست جديدة على الساحة العالمية، وهي موجودة منذ عقود طويلة، تراجعت في فترات، وزادت في أوقات أخرى. ووصلت إلى مستويات مقلقة الآن، ليس فقط بسبب حجمها، بل لأنها تتراكم في زمن السلم. فعندما كانت الديون كبيرة في أربعينيات القرن الماضي، كان ذلك في زمن الحرب العالمية الثانية وتبعاتها. وخلال الآونة الأخيرة، ارتفعت حدة الأخطار من جهة إمكانية العجز عن السداد. وبالفعل وقعت دول نامية في هذا العجز العام الماضي، بينها لبنان وتونس وسريلانكا وبيلاروسيا وفنزويلا والأرجنتين وأوكرانيا وحتى روسيا وغيرها. وهذه النقطة خصوصا، تمثل التهديد الأكبر للنظام المالي العالمي.
ارتفاع معدلات الفائدة، مع تراجع النمو، والأزمات الاقتصادية الأخيرة، بما في ذلك الموجة التضخمية، مع تسارع وتيرة النزاعات الجيوسياسية، وضع الديون السيادية في دائرة الخطر. والأمر ينسحب حتى على الدول المتقدمة، ولكن ليس من جهة العجز عن السداد، بل من ناحية تكلفة خدمة الدين ذاته. والمشكلة الرئيسة الآن، تتلخص في الأسئلة التي تدور حول ما إذا كان الوضع المالي الراهن على الساحة العالمية، يمكن أن يؤدي إلى أزمة مالية عالمية لاحقا، خصوصا في ظل تزايد الضغوط. والساحة الدولية لا تتحمل بالطبع أزمة كبرى، في حين أن تداعيات أزمة 2008 التي بدأت مالية وتحولت إلى اقتصادية دولية، لا تزال موجودة على الساحة بصورة أو أخرى، وتأثيراتها ستتواصل، بمستويات مختلفة بين هذه الدولة أو ذاك.
الجواب عن ذلك، هو أن الأزمة المخيفة يمكن أن تقع بالفعل، إذا لم تقم الدول بإعادة ضبط محكم لسياساتها المالية. فنسب الدين المرتفعة بلغت في دول متقدمة أكثر من حجم ناتجها المحلي الإجمالي، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، بل تجاوزت في اليابان ضعف هذا الناتج. أما على صعيد الدول الناشئة، فقد بلغ متوسط حجم ديونها 70 في المائة تقريبا، ولكن مع إمكانية تخلف بعضها عن السداد في مرحلة لاحقة، إذا لم تنجح في رفع حجم النمو لديها. وأخطار الديون، لم تكن مطروحة بهذه القوة الآن، عندما كانت الفائدة العامة في أدنى مستوى لها، بل وصلت في بعض الفترات إلى الصفر، ما أسهم في تخفيف ضغوط تكلفة خدمة الديون عموما.
ولا شيء بالفعل يمنع أزمة مالية عالمية أخرى، سوى النجاح في ضبط السياسات المالية في الدول التي تعاني ارتفاعا كبيرا في ديونها. فأهم عامل لتفادي استفحال الأزمة الناتجة عن الدين، هو عدم جعلها تنمو، وضمان حد مقبول للنمو الاقتصادي في الدول المدينة. وبالطبع كما تخلص العالم من سياسة التشديد النقدي، خفت الأخطار بصورة أو أخرى، إلا أن المشكلة الكبرى ترتبط عمليا في الدول التي تعاني ضعفا اقتصاديا. فلو تزايد عدد هذه الدول في المستقبل، ستتشكل نواة أزمة مالية عالمية حقيقية بالفعل. وفي هذه الحالة، لا بد للجهات المعنية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، التحرك لحصر الأضرار قدر الإمكان. وهذا لا يعني أن التحرك المشار إليه سيحل المشكلات القائمة، بل ربما يضع أزمة الديون تحت السيطرة.
لا خيارات كثيرة متاحة في هذا المجال على الإطلاق. فالوضع الاقتصادي العالمي الراهن، قلص عدد هذه الخيارات، ولا شيء يمكن أن ينفع سوى الضبط المالي حتى لو أدى في بعض الأحيان إلى اضطرابات سياسية. الهشاشة الاقتصادية على الساحة الدولية، لا توفر تنوع الحلول، بل صرامة العمل من أجل تقليص عدد الدول التي تعجز عن السداد في المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي