القيم في أعلى هرم البيت الاستراتيجي
صدر كتاب صراع الحضارات لمؤلفه الأمريكي صامويل هنتنجتون، في 1993، أي: بعد ثلاثة أعوام تقريبا من نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، ولا شك أن في توقيته ما يلفت الانتباه. فلقد كانت الحضارة الغربية بشقيها الشيوعي والرأسمالي في صراع على الزعامة "الرمزية" للحضارة الغربية، وهما اللتان خرجتا بالنصر في الحربين العالميتين عند بداية القرن. لقد كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية مجرد مرحلة في صراع طويل بين عدة "رموز" مختلفة للحضارة الغربية، فالحضارات التي تنشأ في مرحلة ما من التاريخ تبدأ في شكل روح مملوءة حتى الثمالة بالقيم، ولا شك أن الحضارة الغربية "بكل رموزها" كانت نابعة من روح واحدة، وهي نظرية نيوتن، تلك النظرية التي نبعت من مفاهيم الشك والتجربة، ومن ثم الوصول إلى الحقيقة. وكانت القوة في قوانين ثلاثة أهم قيمة في الحضارة الغربية فيما بعد. لقد تسابق فقهاء الغرب بعد نيوتن لاستخراج كل القيم والتعاليم من تلك القمم التي أطلقها نيوتن، ومن بينهم هيوم خاصة الذي وضع الحضارة الغربية على مفترق طرق، لتنشأ بعده تيارات واسعة "المثالية الألمانية، والحتمية الإنجليزية، والرومانسيين في فرنسا، ثم النسبية والبنيوية" تيارات كانت تريد إنتاج الحضارة الغربية أو إعادة إنتاجها بطريقة خاصة بها، لكن بقيت القوة هي العنصر الأساس في الصراع بين كل هذه التيارات. ولأن كل حضارة تتوقف إذا تحولت روحها وقيمها إلى رموز، سواء كانت في أشكال تعبيرية "عسكرية، أو معمارية أو أدبية أو فنية"، أو حتى في أشكال علمية "علاقات رياضية بين عوامل"، فالترميز لأي روح أو قيمة هو تحجر لها، أي تصبح خالية من مضمونها، وتصبح الرموز مجرد وسيلة لشرح تلك الروح "التي تحجرت"، من خلال تعليبها في كتب ومقررات ثم تعليمها، عندها تبدأ الروح الحضارية في التخلي عن الإبداع، مع تركيز المدارس والجامعات على شرح الرموز "المتحجرة"، وتبدأ بالتشظي "أيضا في الجامعات ومراكز البحث" مع إعادة تقسميها وتأريخها وشرحها في مسار طويل ممل ومجهد وخطير. فأي شخص يحاول الخروج عن هذه الرموز، فهو خارج السياق الحضاري تماما، وسيتم تجاهله ومعاقبته إذا لزم الأمر على أساس اتهامه بالجهل، وعدم الدراية، وحماية المجتمع، وقد تستخدم عبارات كبيرة جدا مثل "يهدد حضارتنا، وطريقتنا المثلى" لتبرير الحرب والصراع. ولأن الرموز التي نشأت من تفسير القوة عند نيوتن كانت كثيرة ومتنوعة، وكل رمز فيها يدعي الأصالة فقد نشأ صراع طويل في أوروبا، كما أشرت أعلاه، صراع جوهره القوة المادية والحرب منذ الثورة الفرنسية انتهكت معه كل القيم الإنسانية ولم يهدأ إلا مع هزيمة الرموز الشيوعية بالرموز النسبية التي ابتكرها الغرب الرأسمالي في معركة فك ارتباط الدولار بالذهب، وأصبح الاقتصاد العالمي نسبيا، والفائدة الأمريكية ونظامها المصرفي هي مركز قوة النسبة، ولم يعد أمام الشيوعية إلا انتظار هزيمة مادية ميدانية حدثت فعليا في أفغانستان، ليصدر كتاب نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، في 1992، كإعلان انتصار للرموز الأمريكية على جميع الرموز الأخرى، ويبشر بانتشار الاقتصاد الليبرالي واستقرار عالمي في وجود القوة الأمريكية "الشرطي لضمان الالتزام في العالم". لذلك كان صدور كتاب صراع الحضارات بعد ذلك بعام واحد، أي في 1993، مثيرا ولافتا للنظر.
فبعدما هيمنت الرموز الأمريكية "بفعل تلك الانتصارات الاقتصادية بشكل أساس" على كل الحضارة الغربية، تجلت أحكامها على العالم بعد ذلك مع إعلان بوش الابن حربه على العراق دون مبررات أخلاقية ولا مبادئ ولا قيم، فقط نسبية أمريكية، من ليس معي فهو ضدي، وفق نسبية أمريكية جوهرها القوة بمفهومها المادي، ووفقا لقانون نيوتن الأول، فللقوة المادية وحدها القدرة على تغيير من لا يريد التغيير. لقد ظهرت فلسفة القوة عند الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية وهي تقوم بتفجير الذرة التي تتشظى بفعل النظرية النسبية، لكنها أعلنت مع تلك القنبلة تشظي الحضارة الغربية أيضا. فبينما هي تعمل على تفكيك رموز النسبية الرياضية لتحصل على القوة النووية تجاهلت تماما "فعل" التاريخ وصيرورته التي لا تقف، وليست بحاجة للقوة. فالتحجر والترميز اللذان أفقدا الحضارة الغربية روحها منذ قرن كامل كان تأثيرهما عميقا جدا داخلها، فالعلاقات "الرمزية النسبية" بين العوامل الاقتصادية فشلت في التنبؤ أو فهم سبب الانهيارات المالية في 2000 وكذلك 2008، وبينما تقف أوروبا عامة والاقتصاد الأمريكي خاصة على جبل من الديون فلا أحد يعرف كيف ومتي سينهار، تظهر كل يوم عملات إلكترونية تتمرد على الدولار وعلى قوة النظام المصرفي والبنوك المركزية وتتشظى معه أكثر وأكثر. مع خروج الولايات المتحدة من أفغانستان والعراق بلا أثر حضاري ولا قيم، تشظت كل نواحي الحياة الاجتماعية في الغرب، فكل شيء أصبح صغيرا جدا و"نسبيا" للغاية وعلى قاعدة من ليس معي فهو ضدي، حتى وصلت للفطرة الإنسانية التي تشظت هناك وهتكت معها خصوصيتها بفعل النسبية. فالرموز تتشظى هناك وبشكل سريع للغاية مع انتشار التطبيقات الخالية من أي قيمة. لقد فرغت رموز الحضارة الغربية من كل ما فيها من "روح"، ولم يعد في قدرتها إضافة شيء لها أو للعالم، لم يعد في الحضارة الغربية قيم تمنع من قتل الأطفال بالجملة، أو انتهاك فطرتهم وخصوصيتهم وسحق الأسرة، لم تعد هناك من قيم تقود نحو السلام والأمان، والتسامح، والحوار، لم تعد هناك قدرة على إنتاج مفاهيم مثل "لا إكراه في الدين"، "وكان الناس أمة واحدة"، "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" وقيم مثل "لا تناجشوا"، ولم تعد هناك قيم فعالة قادرة على جمع الناس لحماية كوكب الأرض من التلوث، والتصحر "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس". لم يعد هناك غير "رمز" القوة الأسطورية "غير المفهومة"، ونسبية "أنا ومن بعدي الطوفان" الخالية من الإنسانية التي تتشظى كالقنابل النووية لتهلك الحرث والنسل "والله لا يحب الفساد". لن تقف الحضارة الإنسانية على هذا الكوكب، بل هي تسير متجاهلة "رمز القوة" وروح نظرية نيوتن تماما، وستزدهر من جديد في مكان ما وفقا لروح جديدة ملؤها الإيمان لتجعل القيم أولا وأخيرا، فالأشياء تتحرك بهمة القيم التي تجعل الطاقة تنتقل بالخير من جسم إلى آخر، وتضع للقيم مكانها الطبيعي في أعلى البيت الاستراتيجي قبل الرسالة والتميز والتنافس والصراع.