Author

مساحة للتفاهم بين واشنطن وبكين

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"اتفقت مع الرئيس الصيني على التحادث هاتفيا، مباشرة وفورا، عند حدوث أي أزمة"
جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة
بصرف النظر عن النتائج المتواضعة جدا للقمة التي تمت أخيرا بين الرئيسين الأمريكي جو بايدن والصيني شي جين بينج، إلا أنها تدخل ضمن نطاق التهدئة التي يحتاجها الطرف والساحة الدولية عموما. فلا أحد يتوقع من قمة دامت عدة ساعات أن تتوصل إلى حلول لمشكلات قائمة بين الطرفين منذ أعوام عديدة، واستفحلت بصورة غير مسبوقة في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب. التحاور بين أكبر اقتصادين في العالم، هو في حد ذاته خطوة للأمام، يمكن أن تقود إلى خطوات أخرى تشمل كل المشكلات الخلافية، أو على الأقل، تمهد الطريق للتخفيف من وطأتها. فالاتفاق الذي تم في هذه القمة على استئناف المحادثات العسكرية، اختصر مساحة زمنية معرضة لأن تكون طويلة، مع ازدياد تشعباتها، في ظل تطورات عالمية متلاحقة ومتشابكة.
هذه القمة المحورية حقا، وإن كانت بلا نتائج حاسمة، لم تكن لتحدث أصلا لولا سلسلة من الاتصالات المتلاحقة بين واشنطن وبكين، تكللت بزيارتين مهمتين قاما بها كل من جانيت يلين وزيرة الخزانة ووزير الخارجية الأمريكيين إلى بكين في وقت سابق من هذا العام. فهاتان الزيارتان نزعتا عدة صواعق قابلة للانفجار حقا. المرارة بين الطرفين موجودة ولا تزال، وعدم الثقة الكاملة كذلك، والشكوك حول النيات حاضرة، لكن النقطة الأهم وسط ذلك كله، أن لدى الطرفين رغبة حقيقية في وقف تدهور العلاقات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والمالية بينهما، رغم شدة التعقيد الذي يحيط بها. فواشنطن ترى بكين منافسا استراتيجيا رئيسا لها، في حين تنظر الأخيرة إلى واشنطن على أنها تهديد سياسي واقتصادي وحتى أمني لها.
من هنا، لا قمة ولا أكثر يمكن أن تزيل هذه القناعات عند صناع القرار في كلا البلدين، إذا لم تكن هناك خطوات عملية تنشر الطمأنينة لدى الجانبين. وأي تدهور للعلاقات، يترك آثاره على الساحة الدولية عموما، ولا سيما إذا ما أخذنا في الحسبان أنهما بمفرديهما يسيطران على نحو 40 في المائة من الحجم الكلي للاقتصاد العالمي. المسؤولون لدى الجانبين يعرفون تماما، أن أي تفاقم للأزمات الثنائية ستكون له عواقب وخيمة على العالم أجمع. الغريب، أنه في الوقت الذي عدت الحكومة الصينية أن وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، يعني تراجع حدة المواجهة مع واشنطن التي وصلت إلى أوجها خلال رئاسة ترمب، إلا أن ذلك لم يحدث. صحيح أن الأمر لم يتفاقم عما كان عليه، إلا أنه لم يتحسن بما يكفي لتوفير الأرضية اللازمة لعلاج المشكلات العالقة والمتفاقمة.
مرة أخرى القضايا العالقة بين الطرفين كبيرة ومتشعبة، وتصعب رؤية حلول قريبة وناجعة لها، لكن هنا مسارات يمكن أن تساعد على إزالة أجواء عدم الثقة بينهما، لا علاقة لها بالطبع بالأزمة المستعصية التاريخية الخاصة بجزيرة تايوان. فهذه الأخيرة تبقى بمنزلة قفل قوي لأي قناة يمكن أن تؤدي إلى حل أو حلول. المسائل الأخرى التي بالإمكان معالجتها وفق رؤى ترضي الطرفين، أو على الأقل تقصر المسافات نحو الحلول، كلها تتعلق بالجانب الاقتصادي. فالولايات المتحدة اتخذت مجموعة من الإجراءات العقابية منذ عهد ترمب واستمرت في عهد بايدن، نالت من ميادين عديدة، سواء تلك الخاصة بتصدير التكنولوجيا للصين، ومنع الاستثمارات في قطاعات تكنولوجية صينية ذات التطبيقات العسكرية. إلى جانب الحظر الذي أكدته إدارة بايدن على تصدير الشرائح الإلكترونية الأكثر تطورا، وبالطبع هناك الشكوى الصينية التي لا تتوقف من استمرار واشنطن التمسك بالتعريفات الجمركية المرتفعة التي فرضت عمليا في عهد ترمب.
لأن الأمر يشكل أهمية لا حدود لها بالنسبة إلى بكين، فقد كان الرئيس الصيني صريحا حين قال لنظيره الأمريكي مباشرة إن "قمع العلوم والتكنولوجيا في الصين يحد من التنمية عالية الجودة في البلاد، ويحرم الشعب الصيني حقه في التنمية". وهذا صحيح إلى أبعد الحدود، ولا يبدو أن بكين ستتراجع عن مطالبها بالحصول على التكنولوجيا المتطورة في المرحلة المقبلة، مقابل سياسة معتدلة حيال الولايات المتحدة، بما في ذلك التزامها بحسب شي جين بينج "بعدم خوض حرب باردة أو ساخنة مع أي بلد". كما أنه كان حريصا جدا على التأكيد أن بلاده لا تبحث عن مجالات النفوذ. وبصرف النظر عن التوجهات الحقيقية الصينية، إلا أن الحكومة في بكين تريد بالفعل فتح صفحة جديدة مع واشنطن بأقرب وقت ممكن.
الشعار الحالي الأساس الذي ترفعه الصين، أنه متى فتح باب العلاقات بين الطرفين، لن يغلق مجددا. إنها خطوة مهمة بالفعل إلى الأمام، وليس أمام الولايات المتحدة سوى إعادة ترتيب أوراقها، وإعادة النظر ببعض السياسات المتشددة التي تتخذها حيال الصين، ولا سيما تلك التي تتسم بالإجراءات العقابية. لا أحد يتوقع علاقات طبيعية شرعية بين أكبر اقتصادين في العالم، ولكن يبدو واضحا أن واشنطن باتت تتجه إلى احتواء الصين في وقت تحتاج فيه إلى تحييد قوة بهذا الحجم في مواجهاتها الراهنة، ولا سيما على الساحة الدولية. ويمكن أن تصل في النهاية إلى الصيغة التي تضمن لها علاقات طبيعية في زمن غير طبيعي أصلا.

إنشرها