الديون وعوائد السندات .. المسار عكسي
لم يكن للانخفاض الأخير في عوائد السندات تأثير يذكر في تخفيف القلق بشأن العجز المالي المزمن. وضعت وكالة موديز آخر تصنيف رئيس متبق للولايات المتحدة بالدرجة الممتازة AAA عند نظرة مستقبلية سالبة.
كان هناك قلق كبير بشأن حلقة الهلاك المحتملة مع العجز المتزايد الذي يجبر الحكومات على اقتراض المزيد، ما يدفعها إلى رفع أسعار الفائدة لجذب المشترين. لكن ما قد يبدو بيانا واضحا - أن زيادة الاقتراض تؤدي إلى ارتفاع عوائد السندات - يتبين أنه يتعارض مع السجل التاريخي.
لقد كانت مستويات الديون الحكومية المرتفعة في الاقتصادات المتقدمة مرتبطة دائما تقريبا بانخفاض عوائد السندات، وليس ارتفاعها. وهذه النتيجة لا تقتصر على الولايات المتحدة: فهي تنطبق على ألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، وسويسرا وأستراليا منذ ثمانينيات القرن الـ19.
حتى عندما ننظر إلى العجوزات المالية، التي يمكن عدها اختبارا أكثر عدلا لتأثير عملية الاقتراض الفعلية، فإن الصورة تظل غير منطقية إلى حد كبير. وفيما يتعلق بالتغيرات السنوية أو طويلة الأجل، مع تأخيرات أو بدونها، وفي كل حالة يبدو فيها أن زيادة الاقتراض ربما أدت إلى ارتفاع العوائد، هناك حالة واحدة على الأقل تبدو فيها العلاقة أشبه بالعكس.
ونرى ثلاثة أسباب - اثنان تجريبيان، والآخر نظري - لاستمرار هذه الظاهرة تاريخيا ومن المرجح أن تستمر في المستقبل. الأول هو القمع المالي، حيث تخفض الحكومات والبنوك المركزية العوائد. خلال فترات الديون المرتفعة خاصة، من المعروف أن الحكومات تستفيد من كل الأدوات المتاحة لها، من التيسير الكمي إلى القواعد التنظيمية المحاسبية إلى ضوابط رأس المال، للمساعدة على تقليل تكاليف التمويل التي تتحملها. لكن العلاقة بين الديون المرتفعة وعوائد السندات المنخفضة تظل قائمة حتى في المناطق والفترات التي لم يكن القمع المالي منتشرا فيها على نطاق واسع. وتأثير التيسير الكمي بشكل خاص في خفض عوائد السندات أقل وضوحا مما يقال في بعض الأحيان. وبشكل مشابه بالنسبة إلى التأثير الملحوظ للعملية العكسية - التشديد الكمي - في رفع العوائد.
والحجة الثانية، الأقوى، هي تلك التي استشهدت بها جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية وسط بعض الحدة. القوة الاقتصادية وتوقعات أسعار الفائدة المستقبلية، وليس العجز، هما المحركان الرئيسان لعوائد السندات. في الواقع، الارتباط بين العوائد والعجز يميل إلى أن يكون عكسيا: فالعجز والدين ينخفضان عادة خلال فترات النمو الاقتصادي عندما ترتفع عوائد السندات، ويرتفعان خلال فترات الركود عندما تنخفض العوائد. ويتسبب العرض الكبير في أن تصبح السندات الحكومية أرخص مقارنة بمقايضات أسعار الفائدة، لكن هذا يختلف تماما عن دفع مستويات العائد.
أما السبب الثالث وراء عدم ارتباط العجوزات الضخمة بعوائد السندات المرتفعة هو أن أغلب الاقتراض، خلافا للحدس، أقرب كثيرا إلى التمويل الذاتي على مستوى النظام مما هو معترف به على نطاق واسع.
لا تحتاج إلى العمل في قسم القروض المجمعة في أحد البنوك الاستثمارية لرؤية المنطق الجوهري في العبارة التي تقول إن "شخص ما يحتاج إلى شراء" كل إصدار من السندات. يتضمن ذلك عادة سحب مستثمر خاص الودائع من حسابه المصرفي. لكن توقف لحظة للنظر في العملية ككل. شريطة أن يتم إنفاق عوائد بيع السندات في مرحلة ما في الاقتصاد الحقيقي، فإنها تنتج زيادة في الودائع المصرفية تعادل بالضبط المبلغ الذي سحبه المستثمر الخاص للشراء. إجمالي الودائع المصرفية - أو الأموال الضيقة (الأصول عالية السيولة) - لم يتغير.
الأغرب من ذلك هو التأثير في النقود بمعناها الواسع، أو الائتمان. عندما يستدين أحد الأطراف، يكتسب النظام ككل أصولا والتزامات. ومن ثم فإن عملية الاقتراض نفسها توجد "المال"، على الأقل بالمعنى الواسع للائتمان الإجمالي، من لا شيء. وهذا لا ينطبق فقط عندما يتم تمويل الاقتراض عن طريق الإقراض المصرفي - وهي عملية أصبحت مألوفة عبر ورقة بحثية صادرة عن بنك إنجلترا - لكن حتى عندما يتم تمويله عن طريق سوق السندات. لهذا السبب أيضا يرتبط إجمالي الاقتراض بأسعار الأصول بشكل أفضل مقارنة بعوائد السندات.
لا يبيح أي من هذا الإنفاق غير المحدود بالعجز. كما أظهرت حكومة المملكة المتحدة بقيادة ليز تروس بوضوح شديد، هناك نقطة يصبح عندها العجز مهما، ويكون له تأثير بديهي يتمثل في ارتفاع العوائد إلى مستويات أعلى. لكن مع ميل الزيادات في حالات التخلف عن السداد في الشركات إلى أن تكون ناجمة بشكل أقل عن اقتراب آجال استحقاق الديون وبدرجة أكبر عن انهيارات في الأرباح، فإن الأزمات النقدية في أسواق السندات تميل إلى أن تكون مدفوعة بشكل أقل بحتمية مدفوعات الفائدة المركبة وأكثر بسبب الانهيارات المفاجئة في المصداقية وموجات بيع العملة والتضخم الناجم عن انخفاض سعر العملات.
يعد التمويل موضوعا غير خطي، أكثر من الاقتصاد حتى. إذ يمكن للأمور غير المستدامة في المدى الطويل أن تثبت في كثير من الأحيان أنها قابلة في المدى القصير للاستثمار بشكل مدهش.
مؤسس ساتوري إنسايتس وخبير استراتيجي سابق في الأسواق العالمية في بنك سيتي