أزمة البنوك القادمة .. العقارات التجارية
يبدو أن أزمة القطاع العقاري التجاري الأمريكي لا تزال تتفاقم، ولم يتضح بعد أي نهاية قريبة لها، فبحسب آخر بيانات نسبة القروض العقارية التجارية إلى أصول البنوك، تتواصل النسبة في الارتفاع لتصل إلى 30 في المائة للبنوك الصغيرة، بينما تقف عند مستويات مستقرة في حدود 7 في المائة لدى البنوك الكبيرة، وهي البنوك التي تتجاوز أصولها مائة مليار دولار. هذا يعني أن الأزمة البنكية الأمريكية لم تنته بعد، على الرغم من التصريحات المطمئنة الصادرة من مجلس الاحتياطي الفيدرالي عقب اندلاع الأزمة البنكية أوائل هذا العام، وعلى الرغم من السيولة الطارئة، التي حصل عليها كثير من البنوك الإقليمية.
قد تكون البنوك تجاوزت إلى حد كبير مخاطر ارتفاع معدلات الفائدة وتنظيف قوائمها المالية بعض الشيء، إلا أن أزمة القروض العقارية التجارية لا تزال تغلي، ولا يعرف حتى الآن إلى متى ستستمر، وما إذا كانت هناك حلول غير اللجوء إلى محاولات الإنقاذ أو الاستسلام للتعثر والانهيار. وهذه الأزمة شبيهة بأزمة 2008 التي نتجت عنها إحدى أكبر الأزمات المالية العالمية، غير أن الأزمة السابقة انطلقت من القطاع العقاري السكني، وهذه أزمة خاصة بالقطاع التجاري. وعلى الرغم من صغر حجم القروض العقارية التجارية، مقارنة بنظيرتها السكنية إلا أن القروض العقارية التجارية في الأغلب قصيرة المدة بنسبة ثابتة أو متغيرة، وليست مثل السكنية التي تمتد فتراتها إلى 30 عاما، ومعظمها استفاد من تدني مستويات الفائدة منذ 2009، وليس لديها حاجة إلى إعادة التمويل.
واجهت القروض العقارية التجارية تحديات ليست فقط نتيجة التأثيرات الكارثية لارتفاع معدلات الفائدة في الآونة الأخيرة، بل كذلك نتيجة تراجع الإقبال على كثير من الأنشطة التجارية، التي تتطلب منتجات عقارية كبيرة ومكلفة، مثل المجمعات التسويقية وأبراج الأعمال، التي تأثرت بسبب انتشار التجارة الإلكترونية ومنافستها للتجارة التقليدية، إلى جانب تغير أنماط العمل واللجوء إلى العمل عن بعد، التي تركت خلفها مساحات واسعة ومتعددة من المكاتب الخالية.
بحسب تقارير عدة تصل نسبة المساحات المكتبية الشاغرة في عدد من المدن الرئيسة إلى 50 في المائة، وهناك آلاف المباني والممتلكات تم التخلي عنها للبنوك المقرضة التي تسعى جاهدة للتخلص منها بأي طريقة كانت. كما يشير بعض المستثمرين في القطاع إلى انخفاض أسعار بعض الممتلكات العقارية التجارية هذه الأيام إلى نحو ثلث قيمتها قبل أربعة أعوام، وهنا مصدر القلق الذي ينتاب البنوك التي فجأة وجدت تلك الممتلكات في قوائمها المالية، علاوة على خسارتها التدفقات النقدية نتيجة تعثر تلك القروض. وكما تمت الإشارة إليه تصل نسبة القروض العقارية التجارية إلى أصول البنوك إلى 30 في المائة لدى البنوك الصغيرة، بينما هي مستقرة لدى البنوك الكبيرة، كما أن نسبة النقدية إلى الودائع لدى البنوك الصغيرة في انحدار شديد منذ بداية 2022، وهذه النسبة مهمة للغاية كونها تبين حجم السيولة لدى البنوك الصغيرة وقدرتها على دفع فوائد على ما تحتاج إليه من ودائع، ومن جهة أخرى تلك السيولة تظهر مدى قدرة البنوك الصغيرة على فتح قروض جديدة للعملاء. وانخفضت نسبة النقدية إلى الودائع من أعلى من 15 في المائة لدى البنوك الصغيرة في أول 2022 إلى نحو 7 في المائة حاليا، علما بأن معظم السيولة لديها أتت من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي وبرنامج التمويل الطارئ للبنوك، وهي سيولة مؤقتة لا بد من إعادتها إلى الفيدرالي، ومن ثم على هذه البنوك التفكير في كيفية الحصول على مزيد من السيولة، وعندها قد تضطر إلى التخلص من ممتلكاتها العقارية، ما يعني مزيدا من تدهور أسعار العقارات التجارية.
أحد المخارج، التي ينظر إليها وتدرس احتمالات نجاحها هذه الأيام هي تجارب عمليات تحويل المباني التجارية إلى سكنية، لتفادي بيعها بأسعار زهيدة، ومن جهة أخرى للاستفادة من الأزمة السكنية القائمة، التي لم تتأثر أسعارها ولا إيجاراتها على الرغم من التقلبات الاقتصادية وارتفاع معدلات الفائدة. لكن عملية تحويل المباني التجارية إلى سكنية ليست بالأمر الهين، بسبب الحاجة إلى تمويلات ضخمة للقيام بذلك نتيجة اختلاف طبيعة هذه المباني وملاءمتها للاستهلاك السكني، وصعوبة المخاطرة على المستثمرين في القطاع جراء تجارب عقارية جديدة لا يعرف مدى نجاحها. فمثلا هناك تجارب لتحويل بعض أبراج الأعمال التجارية إلى سكنية، وهناك تجارب لتحويل بعض المجمعات التسويقية "المولات" إلى صالات لبعض الألعاب الرياضية، التي تتميز بحاجتها إلى أماكن مغطاة ومبردة وموجودة في أماكن جذابة.