منذ 2009 حتى نهاية العام الماضي، بلغ إجمالي صافي مشتريات الأصول من جانب البنوك المركزية الكبرى ـ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا، وبنك اليابان ـ نحو 20 تريليون دولار. يجب أن ينخفض هذا الرقم. السؤال الكبير هو إلى أي مدى، وبأي سرعة؟.
في أعقاب الأزمة المالية، جمعت البنوك المركزية السندات كجزء من برامج التيسير الكمي لتحفيز الاقتصادات التي تعاني قلة الطلب. ثم ضربت الجائحة، ما أدى إلى مزيد من الإسراف في شراء السندات لتهدئة الأسواق. وكانت البنوك المركزية (باستثناء بنك اليابان) تعمل على تقليص ميزانياتها العمومية هذا العام عبر التشديد الكمي: حيث سمحت للسندات التي تنتهي صلاحيتها بأن تبلغ آجال استحقاقها دون استبدالها، وفي حالة بنك إنجلترا، عن طريق بيعها.
عندما تشتري البنوك المركزية السندات من البنوك، تحصل الأخيرة على ائتمان يعرف باسم احتياطيات البنك المركزي – الأصول المالية الأكثر أمانا وسيولة. ويؤدي التشديد الكمي إلى عكس هذه العملية، ما يؤدي إلى تقليل السيولة في النظام.
ومع ذلك، فإن إجمالي حيازات الأصول لدى الاحتياطي الفيدرالي يعادل نحو 30 في المائة من الاقتصاد الأمريكي – أقل بقليل من ثمانية تريليونات دولار – ويعادل لدى البنك المركزي الأوروبي أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو.
يؤدي الإبقاء على ميزانية عمومية كبيرة للغاية إلى تفاقم عدم الاستقرار المالي ـ فالاحتياطيات الفائضة تشوه السوق الخاصة بتوفير السيولة، وتوجد الاعتماد على البنك المركزي، وكما أوضح أندرو هاوزر، المدير التنفيذي في بنك إنجلترا، في خطاب ألقاه أخيرا، فإنها يمكن أن تؤدي إلى تفاقم المخاطرة غير المناسبة.
كما يمكن أن تؤدي إلى زيادة المخاطر التشغيلية ومخاطر السمعة بالنسبة إلى البنوك المركزية. عندما ترتفع أسعار الفائدة، تعاني البنوك المركزية خسائر في محافظ سنداتها وتدفع مزيدا من الفائدة على احتياطيات البنوك التي أنشأها التيسير الكمي.
قال ريكاردو ريس، أستاذ في كلية لندن للاقتصاد: "تواجه كثير من البنوك المركزية الآن ثغرات مالية كبيرة، وهو أمر غير مريح سياسيا". في يوليو، توقع بنك إنجلترا أنه سيتكبد خسارة صافية تزيد على 150 مليار جنيه استرليني على مدى العقد المقبل مع إنهائه للتيسير الكمي. ورغم أن التكلفة تغطيها سندات الخزانة، فإن ذلك لا يصب في مصلحة الصورة العامة للبنوك المركزية، إذ ينبغي أن يكون هدف التيسير الكمي تهدئة الأسواق أو توفير التحفيز عندما تكون أسعار الفائدة منخفضة بالفعل. وإذا لم يتم إنهاء التيسير الكمي، فإن البنوك المركزية تخاطر بأن ينظر إليها على أنها تمول العجز الحكومي.
تسمح الميزانية العمومية المقلصة أيضا للبنوك المركزية باستعادة "الحيز القيم في السياسات في بيئة لا تكون فيها حاجة إلى الحجم الكبير الحالي من السيولة الفائضة"، كما أشارت إيزابيل شنابل، عضوة المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، في خطاب ألقته في مارس. وقد تكون هناك حاجة أيضا إلى دفع أسعار الفائدة إلى مستوى أعلى مما تكون عليه الحال مع الميزانيات العمومية الأصغر، ما يزيد من فرصة حدوث ركود أعمق – خاصة إذا ارتفعت مع كل أزمة.
لكن مشكلة التريليون دولار التي تواجه البنوك المركزية هي كيفية تقليص تأثيرها في اقتصاداتها من دون إثارة اضطرابات.
تشير توقعات العجز الحكومي المرتفع، خاصة في الولايات المتحدة، إلى وفرة المعروض من إصدارات السندات الحكومية في المستقبل. ويضيف التشديد الكمي المستمر مع مبيعات السندات إلى هذا المعروض. قد يرفع هذا العوائد بشكل كبير، ويؤدي إلى انهيار شيء ما في الاقتصاد – أدت جهود التشديد الكمي التي بذلها الاحتياطي الفيدرالي في 2019 إلى حدوث تشنجات في السوق. وتتزايد بالفعل الدعوات للتخلي عن التشديد الكمي.
يعتمد المدى الذي ينبغي للبنوك المركزية أن تذهب إليه على الحجم الأمثل لميزانياتها العمومية، أو الحد الأدنى المفضل من الاحتياطيات كما يطلق عليه بنك إنجلترا. يقول ريس: "ينبغي أن تكون كبيرة بما يكفي لتلبية الطلب على الاحتياطيات". وهذا يعني أنه لا ينبغي للبنوك المركزية أن تقلص ميزانياتها إلى مستويات ما قبل الأزمة المالية العالمية – فقد نمت الاقتصادات وارتفعت احتياجات البنوك من السيولة، كما يتضح من الطلب على سليكون فالي بنك في أعقاب تدفقات الودائع الخارجة السريعة التي أدت إلى انهياره.
وهذا ما جعل حساب المستوى الدقيق للحد الأدنى المفضل من الاحتياطيات أكثر صعوبة. في الولايات المتحدة، قدر محللون أدنى مستوى مقبول من الاحتياطيات في النظام المصرفي بنحو 2.5 تريليون دولار، مقارنة بأكثر من ثلاثة تريليونات دولار حاليا. ويشير هذا إلى أن نهاية التشديد الكمي لا تزال بعيدة، خاصة عند الأخذ في الحسبان تسهيلات السيولة الأخرى للاحتياطي الفيدرالي.
لكن هناك بعض التعقيدات: هل يمكن للبنوك المركزية خفض أسعار الفائدة من ناحية في حين تنفذ التشديد الكمي من ناحية أخرى؟ وبالنسبة إلى البنك المركزي الأوروبي، فإن التشديد الكمي معقد بسبب الحاجة إلى الدفاع عن عوائد السندات السيادية "الهامشية"، ما يمنعها من التوسع بشكل كبير عن عوائد ديون أخرى في منطقة اليورو. ونظرا لاحتفاظه بكمية غير متناسبة من هذه السندات، فمن الممكن أن تؤدي مبيعات التشديد الكمي إلى الضغط عليها.
مع ذلك، ينبغي للبنوك المركزية الحذر، وأن تسعى إلى خفض حيازاتها إلى مستويات أكثر ملاءمة على المدى الطويل. لن تكون هذه عملية سهلة، إذ ستحتاج هذه الحمية إلى المعايرة، بما يتناسب مع مخاطر السياسة النقدية والمالية. لكن ربما تؤدي صعوبة التخلص من الأصول إلى تحفيز إعادة التفكير في مدى سخاء البنوك المركزية في شرائها في المستقبل.

التشديد الكمي .. حذار من تعريض الاستقرار المالي للخطر

أضف تعليق