التحدي الثلاثي

هناك مقولة صينية تقول: "عسى أن تعيش في حقبة ممتعة" ـ يقصد بها عادة السب أو التشفي بأن تعيش أثناء حقبة متقلبة وخطيرة، أخذ بها كثير في أدبيات الغرب، وأصبحت دارجة، ولو أنها ابتعدت عن المقصود في بلاد الأصل. لكن العالم أصبح اليوم أصغر وأكثر تعقيدا، لذلك أجدها مناسبة للحديث عن الحالة العالمية اليوم. فمن تصور أن أزمة غزة ـ شريط ساحلي صحراوي صغير في زاوية بين إسرائيل ومصر، وعدد سكاني نسبيا محدود، أن تشغل العالم، وتخطف الأنظار عن حروب عدة في العالم، كالحرب في أوكرانيا والسودان حتى سورية القريبة، وربما اهتمام أمريكا بشرق آسيا.
لأزمة غزة تبعات قد لا تكون مباشرة، لكنها تذكير بمدى التشابك بين أقطاب العالم، وطبيعة المشكلات المختلفة. هناك ثلاثة تحديات كونية تؤثر في بعض: الأولى، ما يواجه العالم من تحديات مالية. الثانية، التحديات الأمنية ـ العسكرية، بسبب التجاذب الجيوسياسي. الثالثة، التحديات البيئية والطاقة.
لنبدأ بالتحدي المالي، لأنه يرتبط بالتحديات الأخرى، ويتمثل في حجم العجز المالي والديون، خاصة في الدول المؤثرة. تعود المراقبون الماليون على حجم الدين في اليابان، لكنها بقيت حالة خاصة بسبب الكفاءة الإدارية والتجانس السكاني، وبالتالي حوكمة عالية وانضباط مجتمعي. لكن هذه ظروف لا تتوافر في دول كثيرة، خاصة لما تصل الإشكالية إلى أمريكا بسبب مركزية الدولار، وحجم الدين، وتخلخل الحوكمة، إذ تقدر الفوائد على الدين بتريليون دولار في أمريكا وحدها سنويا، والعجز قد يصل إلى تريليوني دولار.
أوروبا ليست بعيدة، وقد شهدنا العام الماضي أزمة في بريطانيا حول تسعير السندات. بل إن حتى الصين في مرحلة مختلفة اقتصاديا، لكن أزمة الدين جاءت نسبيا مبكرة. كذلك هناك دول نامية كبيرة كثيرة تعاني، مثل باكستان ومصر، فحتى الدول النفطية لم تسلم من العجز. ولم تساعد نسب الفائدة العالية على تمويل الاقتراض. تأتي هذه التحديات المالية في أثناء حالة جيوسياسية جديدة عالميا.
تحدث كثير من المختصين في أمريكا عن مدى الضغط على المخزون العسكري حتى مفاضلة غير متوقعة بين أوكرانيا وإسرائيل. كذلك لجأت روسيا إلى إيران وكوريا، نظرا إلى الضغط على توافر المواد والأدوات اللازمة لاستمرار صناعاتها العسكرية. أمريكا وروسيا ليستا الدولتين الوحيدتين اللتين تعانيان في هذا الشأن على الرغم من أهمية تصنيع السلاح. هناك أزمات جيوسياسية كثيرة بعضها كوني، وكثير منها إقليمي، لكن كما رأينا في غزة، فقد تتحول أزمة في ركن صغير إلى عالمية بسرعة.
هذه الأزمات تسببت في رفع ميزانيات السلاح، وتحويل الأموال من استثمارات مدنية واجتماعية، إلى الاستثمار الأمني والعسكري، وأحيانا من خلال تمويل مكلف ماليا. يتزامن مع هذه التطورات المالية والجيوسياسية اهتمام غير مسبوق بالبيئة والطاقة البديلة، حيث اختلط الموضوعي مع السياسي المؤدلج.
هناك تحديات بيئية، لعل أوضحها جودة الهواء، وتوافر المياه بأسعار معقولة، وجودة مقبولة في أنحاء كثيرة من العالم، وارتفاع درجات الحرارة. التعامل معها من خلال محاولة التسريع بتغيير منظومة الطاقة متسرعة، وبالتالي مكلفة بسبب الظروف الموضوعية التي تحيط بها من تحديات التعدين والمواد اللازمة إلى حاجة مئات الملايين إلى مصادر طاقة معقولة التكلفة وموثوقة وسريعة نسبيا.
فمثلا بدا واضحا أن كثيرا من اقتصاديات الطاقة البديلة يعاني ماليا ويتطلب دعما حكوميا متزايدا بسبب عدم الجدوى الاقتصادية، وبالتالي رصد برامج حكومية مكلفة. تسهم في هذه التكلفة السياسات الحمائية التي أسهمت في التضخم، وبالتالي رفع نسب الفائدة ومنافسة الصناعات العسكرية في توفير المعادن النادرة، حتى ارتفاع الأجور لكثير من المهن التخصصية. تزامن هذه التحديات سيضغط على الجميع ما يجعل المفاضلات والخيارات أصعب. عرض هذه التحديات الثلاثة ليس توقعا لما ستؤول إليه الأمور في أي من هذه التحديات، ناهيك عن تداخلات لا يمكن تقدير تعقيداتها، لكن مجرد محاولة بالتذكير بالمخاطر، واستدراك الفرضيات التي يقوم عليها كثير من الخيارات والسياسات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي