المصارف .. لماذا التراخي؟

أظهرت أزمات البنوك والديون السيادية في منطقة اليورو فجوات عميقة في هيكل النظام المالي الأوروبي، التي تجعله عرضة لأزمات مستمرة ومستقبلية، وفي الوقت نفسه أدى عجز الموازنات العامة المستمر في هذه الدول إلى ارتفاع شديد في الديون السيادية، وخلال الأزمة المالية العالمية اضطرت بعض الدول الأوروبية إلى تقديم حزم إنقاذ لنظامها المصرفي، الأمر الذي رفع من مستويات الديون السيادية وأدى في النهاية إلى أزمة أوروبية. ما استوجب على صناع القرار ضرورة استكمال بناء التكامل الاقتصادي والنقدي بالوحدة المصرفية.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي واجه ضغوطا للتحرك بسرعة في أعقاب إفلاس ثلاثة مصارف أمريكية خلال الأشهر الماضية ودمج مصرف كريدي سويس السويسري العملاق مع منافسه الإقليمي ونظيره يو بي إس. ومن هنا حذر البنك المركزي الأوروبي مرارا من مسألة تماسك القطاع المصرفي على ساحة منطقة اليورو. والتحذيرات تصاعدت أكثر في أعقاب الموجة التضخمية الراهنة التي ضربت الاقتصاد العالمي، وأجبرت البنوك المركزية الرئيسة حول العالم على رفع أسعار الفائدة، من أجل كبح جماح التضخم.
وفي المنطقة التي تضم 20 دولة، لا تزال هناك حالات من التفاوت في رؤية كل دولة لمسار القطاع المصرفي، فضلا عن الاحتياجات الوطنية لكل دولة التي قد لا تتوافق تماما مع التشريعات التي يطلقها البنك المركزي الأوروبي. لكن في النهاية تبقى البنوك المركزية للدول العشرين ملتزمة دستوريا بتشريعات "المركزي الأوروبي". ولا شك أن بعض الخلافات السياسية عمقت المخاطر التي يحذر منها المشرعون الأوروبيون، خصوصا في ظل تباين واضح في عملية الإنفاق بين دولة وأخرى، بل بين حكومة وأخرى ضمن البلد الواحد.
التحذير الأخير الآتي من أندريا إنريا رئيس قسم الإشراف في "المركزي الأوروبي"، ليس جديدا بالطبع، لكنه حدد المخاطر بوضوح، وعلى رأسها أن النظام المصرفي في منطقة اليورو يعاني التجزئة. بمعنى آخر، أن السوق المصرفية في الدول المنضوية تحت لواء اليورو صارت تعاني هذه التجزئة على أسس وطنية. وهذه النقطة تمثل تهديدا حقيقيا، وإن كان ليس خطيرا، للنظام المصرفي الأوروبي عموما. فهذه الحالة تزيد من الضعف المالي، خصوصا في أوقات الأزمات العامة، وماذا ينتج عنها أيضا؟ ارتفاع التكاليف على كل الأطراف المعنية. وفي مثل هذه الحالة أيضا، ترتفع حدة ما يمكن وصفه بـ"الصدوع الوطنية". وهذه نقطة حذرت منها كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي منذ اليوم الأول لوصولها إلى منصبها قبل عدة أعوام. ويكون الأمر أشد في أوقات عدم الاستقرار المالي بالطبع.
والمشكلة الرئيسة في هذا الأمر الذي يشهد تفاقما، أنه لو حدثت صدمة في جزء "وليس كل" الاتحاد المصرفي، فلن يعمل القطاع المالي عموما بقوة من أجل امتصاص الصدمات، وبالطبع استيعاب الخسائر التي قد تحدث. وهذه ستكون كارثة فيما لو حدثت بالفعل، لأنها ببساطة ستضرب الثقة الموجودة بالنظام المصرفي العام بأكمله. وبالطبع تتحمل الحكومات الوطنية في عدد كبير من دول منطقة اليورو مسؤولية هذا المشهد الخطير، فيما لو ظهر على الساحة بالفعل. ففي الأشهر الماضية، قررت بعض البنوك المركزية الوطنية عدم السير تماما مع السياسة المالية لـ"المركزي الأوروبي"، فلم تمرر الارتفاع الكبير لأسعار الفائدة التي فرضها هذا الأخير، ولا يزال يحافظ على إبقائها مرتفعة من أجل مواجهة التضخم. فهذه الفجوة أسهمت في زيادة القروض.
ولأن الأمر كذلك، أقدمت دول مثل إيطاليا وإسبانيا على فرض ضرائب لم تكن متوقعة على القطاع المصرفي. وفي كل الأحوال، ليس أمام السوق المالية في منطقة اليورو، سوى أن تكون متكاملة، لأن ذلك سيوفر قوة دفع كبيرة للسوق، فضلا عن رفع مستوى الفائدة للعملاء العاديين والمصارف في آن معا. باختصار يجب أن تكون السياسات المالية متناسقة بصورة كبيرة، بصرف النظر عن الاعتبارات المحلية في هذا البلد أو ذاك. ولا شك، أن هذا الأمر سيرفع من أهمية الرقابة على الخدمات المصرفية، التي تعاني بعض التراخي على مستوى المنطقة المشار إليها. ومن هنا، يمكن النظر إلى المخاوف التي يطلقها المشرعون الأوروبيون بين الحين والآخر، التي باتت تنشر القلق في الساحة كلها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي