التعلم مدى الحياة ومسؤولية الجامعات

تعبير "التعلم مدى الحياة" ليس جديدا، لكنه يتجدد مع تزايد الحاجة إليه لمواكبة التقدم المعرفي الذي يشهده العالم، والاستجابة لمتطلباته المهنية والاجتماعية والإنسانية. وأمام هذه الحاجة يبرز دور مؤسسات التعليم في العمل على وضع برامج تعليمية مستمرة ومتجددة لإتاحة هذا التعلم للجميع. وإذا نظرنا من حولنا عالميا ومحليا إلى ما يجري بشأن هذا التعلم لوجدنا أن الاهتمام بشؤونه بدأ في أعوام سابقة، وهو يتجدد ويتوسع اليوم، لكنه ما زال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. وتأتي الجامعات في مقدمة الجهات المسؤولة عن ذلك، لأنها المؤسسات المعرفية الرائدة المعنية بتأهيل الثروة البشرية وتفعيل دورها في الإبداع والابتكار والعطاء المعرفي. وليست جميع الجامعات على قدم المساواة في الاهتمام بهذا التعليم، فبعضها متقدم على البعض الآخر، وفي ذلك مجال لتفاعل الخبرات والتعاون، بل التنافس أيضا، في نشاطات تعود بالفائدة على المجتمعات الإنسانية حول العالم.
لعلنا، تمهيدا لمناقشة هذا الأمر، نلقي بعض الضوء على مشهد التعلم مدى الحياة من حولنا عالميا ومحليا. يقول هذا المشهد على المستوى العالمي، إن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" أنشأت، عام 1952، معهدا للتعلم مدى الحياة، في مدينة "هامبورغ" الألمانية، وكانت غايته، في ذلك الوقت، مساعدة الشعب الألماني معرفيا بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وانهيار إمكاناتها. ويعمل المعهد حاليا، كما يقول الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه، على "تعزيز إمكانات الدول الأعضاء في (اليونسكو) في مجال التعلم مدى الحياة، ويشمل ذلك تفعيل منظومات التعلم في هذه الدول، والتركيز على مهارات الحياة والعمل المهني، والاهتمام بشمولية التعلم".
وحظي موضوع التعلم مدى الحياة باهتمام جامعات مختلفة على مستوى العالم، وكان على رأسها الجامعات التي تتمتع بسمعة عالمية واسعة النطاق، مثل: جامعات هارفارد، وستانفورد، وأكسفورد، وكامبردج، ومعهد ماساشوستس التقني. فلدى هارفارد برامج تحمل عناوين التعلم المهني والتعلم مدى الحياة، ولدى ستانفورد مثل ذلك أيضا. كما أن لدى جامعة أكسفورد قسما للتعليم المستمر، يقدم برامج للتعلم مدى الحياة، ولدى جامعة كامبردج كيان خاص يماثل هذا القسم. ولدى معهد ماساشوستس التقني برامج للتعلم مدى الحياة، تتميز بتركيزها على الجانب المهني.
إذا انتقلنا إلى مشهد اهتمام المملكة بالتعلم مدى الحياة، لوجدنا أن برنامج تنمية القدرات البشرية، المنبثق عن رؤية المملكة 2030، يطرح الحاجة إلى توفير هذا التعلم كمحور من محاور بناء المواطن المنافس عالميا. وعلى مستوى الجامعات نجد، على سبيل المثال لا الحصر، أن جامعة الملك سعود قدمت على مدى عقود، عبر عماداتها وأقسامها المختلفة، دورات خاصة، في كثير من المجالات المعرفية الحيوية. تجدر الإشارة هنا إلى أن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وهي جامعة للدراسات العليا، أطلقت مبادرة جديدة تهتم بالتعلم مدى الحياة، وتقدم سلسلة من الدورات التدريبية العملية والتعليمية المصممة لدعم تطلعات رؤية المملكة 2030.
على الرغم من إيجابيات ما سبق، إلا أن الحاجة إلى التعلم مدى الحياة تبقى غير مغطاة بالقدر الكافي، سواء عالميا أو محليا. فمعطيات الذكاء الاصطناعي تهدد كثيرا من الوظائف القائمة، كما أن الوظائف الجديدة الواعدة تتطلب مهارات جديدة يحتاج تعلمها إلى دورات خاصة. يضاف إلى ذلك حاجة كثير من العاملين المؤهلين، في مختلف المجالات، إلى تحديث تأهيلهم استجابة للتقدم العلمي المتواصل الذي تشهده مختلف المهن، فضلا عن حقيقة بيئة المعرفة في هذا العصر التي تدعو كثيرين إلى البحث عن المعرفة من أجل المعرفة. وللتأكيد على دور الجامعات في هذا المجال، سنستعرض في التالي، ما تقدمه جامعة هارفارد في برامجها حول التعلم المهني والتعلم مدى الحياة، كمثال يحتذى، أو كمثال يستفاد من عطائه في تقديم برامج أكثر تطورا واقترابا من متطلبات العصر المتجددة في المستقبل.
تتميز جامعة هارفارد بعدد العاملين فيها بالنسبة إلى عدد طلابها المنتظمين. فعدد هؤلاء نحو "20 ألفا"، وعدد طلابها المنتظمين نحو "25 ألفا"، وتبلغ نسبة طلاب الدراسات بينهم نحو الثلثين. ولدى هذه الجامعة تاريخ طويل، حيث تم إنشاؤها عام 1636، ولها من الخريجين السابقين على قيد الحياة أكثر من "400 ألف"، يعملون في مختلف أنحاء العالم، كما أن لديها من الأوقاف رصيدا يزيد على "50 مليار دولار".
تقدم هارفارد دورات للتعلم مدى الحياة حاليا في "11 مجالا"، هي مجالات: العلوم، والرياضيات، وعلوم الحاسب، وعلم البيانات، والبرمجة، والصحة، والعلوم الاجتماعية، والإدارة، والتصميم والفنون، والتعليم، إضافة إلى الإنسانيات. وتراوح المدة الزمنية للدورة الواحدة بين أسبوع واحد وأكثر من "12 أسبوعا". ويبلغ مجمل عدد الدورات "788 دورة"، أي نحو "72 دورة" وسطيا في كل مجال. وتشمل هذه الدورات "632 دورة" أونلاين، و"140 دورة" مجانا.
تخدم دورات هارفارد المجتمع المحلي الأمريكي، وكذلك المجتمعات على مستوى العالم، خصوصا مع استغلال إمكانات تقنيات إقامة الدورات عن بعد. وتوسع هذه الدورات دائرة تأثير الجامعة المعرفي على المستويين المحلي والعالمي، وتجعل منها مرجعية معرفية عالمية للتعلم مدى الحياة في مختلف المجالات. ولا شك أن في هذه المرجعية فائدة، ليس فقط لجامعة هارفارد، بل لأمريكا التي تنتمي إليها من جهة، ولمنسوبي هارفارد وأفكارهم ومعطياتهم المعرفية من جهة أخرى.
لا شك أن التعلم مدى الحياة في المجالات المختلفة بات حاجة ملحة للحياة في هذا العصر، بل إنها حاجة متزايدة أيضا في إطار الاستعداد لما هو منظور في المستقبل. وإذا كان في بعض النشاطات الجامعية ما يشير إلى الوعي بالدور الذي يجب على الجامعات القيام به، إلا أن مثل هذه النشاطات لا تزال محدودة، ولا تستجيب بالقدر الكافي إلى المتطلبات القائمة، أو الضرورات المقبلة. وإذا كانت جامعة هارفارد تقدم مثالا يحتذى في هذا المجال، فإن أخذ أي من الجامعات بهذا المثال، يتطلب تعزيز إمكاناتها، والعمل على تفعيلها، والاستفادة منها في تقديم خدمات التعلم مدى الحياة المنشودة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي