البورصة .. ممارسات تاريخية تتجدد لمواكبة الاقتصاد
تعد البورصات عصب الاقتصاد في العالم المعاصر، فما تشهده من تداولات وتقلبات وانهيار وانتعاش.. أشبه بالمرآة التي تعكس حقيقة أسواق المال العالمية. فضلا عن قيمتها السوقية التي تصل بالنسبة إلى كبرى البورصات العالمية إلى عشرات التريليونات من الدولار، فبورصة نيويورك مثلا، التي تأتي في صدارة بورصات العالم، سجلت بدءا من أغسطس الماضي، قيمة سوقية بلغت 25 تريليون دولار.
تاريخيا، يصعب التوافق بشأن أولى الممارسات التي شكلت بواكير العمليات التي تجرى في البورصة بشكلها الحديث، فروايات تعد أن قدماء المصريين عرفوا نشأة مثل هذه الأسواق، وإن كان ذلك بصيغة تقليدية جدا. وتتقدم أخرى في الزمن قليلا، فتربط بدايات الموضوع بالرومان الذين كانوا أول من عرف الأسواق المالية، في القرن الخامس قبل الميلاد.
يبقى الثابت لدى جل المؤرخين أن أوليات التداول ظهرت في أوروبا، إبان النهضة التجارية، في النصف الثاني من العصر الوسيط، فعد بعضهم ممارسات تجار مدينة البندقية مثل: التداول في الديون واستبدال القروض وشراء وبيع إصدارات الديون الحكومية منطلق الفكرة. وربط آخرون المسألة بتلك الأعمال التي شهدتها مدينة أنتويرب البلجيكية، بدءا من ثلاثينيات القرن الـ16، من تداول في السندات الإذنية والديون الفردية، أعقبه ظهور شراكات لتمويل الأعمال التجارية تحقق دخلا شبيها بالأسهم، لكنها ليست أسهما.
أسست بداية القرن الـ17 أول بورصة في العالم للتداول، في السلع الأساسية بدلا عن الأوراق المالية، ونقصد هنا بورصة أمستردام (1602)، تحت اسم "شركة الهند الشرقية الهولندية للتجارة" التي تنشط في مجال التجارة البحرية والاستكشاف في آسيا، حيث تقوم برحلات بحرية لجلب البضائع من الشرق، معتمدة في كل مرة على مستثمرين لتمويل رحلاتهم مقابل نسبة من العائدات عند كل رحلة ناجحة. كثرة المستثمرين والمشاريع دفعت الشركة إلى تغيير طريقة عملها، فاهتدت إلى إصدار أسهم بنسبة أرباح لكل رحلاتها بدل تحديد نسبة لكل رحلة على حدة.
نجاح لافت لشركة الهند الشرقية أسهم في الانتشار السريع للفكرة في الدول المجاورة، فأسست في إنجلترا شركات عدة استطاعت تحقيق ازدهار مالي سريع، قبل انفجار فقاعة شركة "بحر الجنوب" التي أساءت استخدام أموال المستثمرين، ما جعلها عاجلة عن دفع أي أرباح لهم، وتسبب ذلك في إفلاس الآلاف من المستثمرين، لتقرر الحكومة البريطانية حظرا رسميا على أي إصدار للأسهم، استمر حتى عشرينيات القرن الـ19.
لم تحل تلك الواقعة دون الإقبال على تأسيس البورصات في العالم، فظهرت تباعا في كبرى المدن الأوروبية آنذاك، فكانت بورصة في باريس (1724)، وأخرى في فيينا (1771)، وثالثة في لندن (1801)، ورابعة في روما (1808)، وبورصة فانكوفر في كندا (1862)، وفي الولايات المتحدة أكثر من واحدة، فبعد بورصة فيلاديلفيا (1790)، ظهرت بورصة نيويورك (1792) التي تبقى أهم بورصة للقيم في العالم اليوم.
لغويا، تفيد الحفريات في كلمة البورصة بأنها سوق بضاعتها الأوراق المالية وليست السلع والبضائع. وفي اشتقاق الكلمة التي يرادفه في اللسان العربي "المصفق"، أي مكان عقد الصفقات، رواية تؤكد ما تم ذكره بشأن ظهور البورصة، فالتسمية تعود إلى عائلة بلجيكية تدعى فان در بورص تعمل في مجال البنوك، حولت فندقا في ملكيتها، في مدينة بريدج شمال غربي بلجيكا، إلى مكان لالتقاء التجار والوسطاء الماليين والمصرفيين.
بعيدا عن التاريخ قريبا من الأرقام، بلغت القيمة السوقية لأكبر عشر بورصات في العالم، بنهاية أغسطس الماضي، ما قدره 85.2 تريليون دولار، حظيت بورصتان أمريكيتان بما يقارب نصف هذه القيمة، هما: بورصة نيويورك التجارية (25 تريليون دولار) التي بغرض تحقيق بعض الوحدة والاستقرار في أسعار منتجات الألبان (الزبدة والجبن)، تأتي في صدارة البورصات العالمية، وبورصة ناسداك (21.7 تريليون دولار) الحديثة نسبيا، فتأسيسها كان في 1971 من قبل الرابطة الوطنية لتجار الأوراق المالية، ثم ما لبثت أن استحوذت على بورصة بوسطن وفيلادلفيا، ثم صارت صاحبة مؤشر ناسداك 100 الشهير عالميا في قياس أداء البورصات.
كانت بورصة لندن في بداياتها عبارة عن نشرة صحافية لأسعار السوق، ثم تطورت مع مرور الوقت لتصبح إحدى أقدم البورصات في العالم، لا بل إنها أكبر وأهم بورصة عالمية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. قبل أن تزيحها بورصات الولايات المتحدة تدريجيا عن الصدارة، فبدأت تتهاوى في سبورة أقوى البورصات، بعد أزيد من 200 عام من الريادة، لتصبح بفعل تداعيات بريكست ثم كورونا والحرب الأوكرانية الروسية، في المركز التاسع عالميا بقيمة سوقية تصل إلى 3.4 تريليون دولار.
الصين، ورغم حداثة انفتاحها الاقتصادي، نجحت في الحضور ضمن القائمة، فقد جاءت بورصة شنغهاي في المركز الرابع، بقيمة سوقية بلغت 6.7 تريليون دولار، تعقبها في المركز السادس بورصة حديثة، تدعى بورصة شينزين (4.5 تريليون دولار) التي أسست في 1990، للعمل إلى جانب ثلاث بورصات أخرى بشكل مستقل، وإن كانت معظم الشركات فيها تابعة للحكومة الصينية. متبوعة بـ"جمعية متداولي الأسهم والأوراق المالية العالمية في هونغ كونج"، الاسم القديم لبورصة هونج كونج التي أنشئت في 1891، التي تبقى واحدة من البورصات العالمية في آسيا، بقيمة سوقية وصلت إلى 4.2 تريليون دولار.
عربيا، تبقى البورصة السعودية تداول رغم حداثتها (2007)، مقارنة ببورصات عربية أخرى على غرار بورصة القاهرة (1902)، سوقا واعدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع الإشارة إلى عراقتها كسوق مالية غير رسمية (1954). فقد احتلت المركز العاشر في قائمة أكبر البورصات العالمية، بقيمة سوقية قدرت بـ3.1 تريليون دولار. مع توقع الخبراء بتقدمها سريعا في قائمة البورصات، فالثورة التي دشنتها رؤية 2030 تعد بالشيء الكثير، كيف لا وأواخر 2019 شهد أكبر اكتتاب عام في تاريخ أسواق الأسهم العالمية.
تبقى البورصة سوقا مالية تعكس أحوال اقتصاد البلاد، فقدرة أسواق ناشئة، على غرار بورصات الصين وبورصة السعودية... على منافسة أسواق مالية كبيرة وضاربة في القدم، تثبت قدرة اقتصادات هذه الدول على التنافس أولا وعلى الطموح نحو الريادة ثانيا.