من المسؤول عن أزمة الديون الإفريقية .. نظام مالي عالمي غير عادل أم مبالغة في الاقتراض؟

من المسؤول عن أزمة الديون الإفريقية .. نظام مالي عالمي غير عادل أم مبالغة في الاقتراض؟
من المسؤول عن أزمة الديون الإفريقية .. نظام مالي عالمي غير عادل أم مبالغة في الاقتراض؟

عديدة هي المشكلات والتحديات الاقتصادية التي تواجهها القارة السمراء، التي تحول بينها وبين تحقيق تنمية حقيقية، تنتشل السواد الأعظم من أبنائها من براثن الفقر والفقر المدقع. في الأعوام الأخيرة وعلى الرغم من إشراقة اقتصادية هنا وإشادة دولية هناك بالأداء التنموي لهذه الدولة الإفريقية أو تلك، فإن المحصلة النهائية للأداء الاقتصادي العام لا تتفق مع طموحات الأغلبية العظمى من أبناء القارة.
تعدد التحديات الاقتصادية التي تواجه القارة لا يجب أن يبعد الأنظار عن أهمية وضرورة ترتيبها من حيث درجة تأثيرها في إعاقة جهود التنمية الاقتصادية. في الوقت الراهن تجمع الأغلبية العظمى من الخبراء على أن عاصفة سداد الديون الإفريقية قادمة لا محالة، محذرين من أن العاصفة ستضرب بلدان القارة مع استثناءات محدودة للغاية، وإذا لم تسرع إفريقيا في وضع خطة متماسكة ومرنة لمواجهة عاصفة الديون، فإن الرياح العاتية قد تقتلع في طريقها كثيرا من الإنجازات التي حققتها وربما تعيد بعض بلدانها إلى نقطة الصفر من جديد.
إن العواقب الاقتصادية لوباء كوفيد - 19 والحرب الروسية - الأوكرانية قوضت قدرة عديد من الدول الإفريقية على خدمة سداد ديونها السيادية، وفي الوقت الحاضر هناك 22 بلدا إفريقيا منخفض الدخل إما يعاني فعليا ضائقة الديون أو معرض بشدة لخطر الإصابة بضائقة الديون، وقد تفاقمت قضية الديون الإفريقية هذا العام، ما حد من قدرة الحكومات الإفريقية على جمع التمويل اللازم لتحقيق تحسينات اجتماعية أوسع لسكانها، أو المضي قدما في خططها الاقتصادية لتحسين وتطوير البنية التحتية.
في هذا السياق، يرى خبراء أن القادة الأفارقة يبررون اللجوء إلى الاقتراض بضرورة الاستثمار في مشاريع البنية التحتية، لكن كثيرا من البلدان الإفريقية بالغ في الاقتراض بشكل أكثر من اللازم، كما أنه أساء وضع جدول أولويات اقتصادية صحيح يسمح له بسداد خدمة الديون عندما يحل موعد السداد. وفي منطقة مثل إفريقيا جنوب الصحراء وصل الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي إلى 56 في المائة، وهو أعلى مستوى منذ أوائل العقد الأول من القرن الـ21، وعلى الرغم من أن هذا المعدل لا يعد مرتفعا بمعايير دول كإيطاليا واليونان إلا أنه من الصعب على أفريقيا أن تتحمله.
مع هذا يرى البروفيسور أليكس باتلر أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة باث أن "إلقاء اللوم في قضية الديون على عاتق عدم حسن تدبير الأفارقة للأمر يعني تجاهل الشق الخارجي للأزمة، وهذا ما يجعلنا نفتقد رؤية شاملة للمشكلة وسبل الحل".
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن أزمة الديون الإفريقية الراهنة تعكس في جزء منها طبيعة الصراع الدولي خاصة في الشق المتعلق بتنامي التوترات بين الولايات المتحدة ومجموعة السبع من جانب والصين من جانب آخر، فنحو 12 في المائة من الديون الخارجية الخاصة والعامة في إفريقيا مستحقة لمقرضين صينيين، وقد زادت أكثر من خمسة أضعاف لتصل إلى 696 مليار دولار خلال العقدين الأولين من هذا القرن، وعلى الرغم من انخفاض القروض الصينية لإفريقيا في الأعوام الأخيرة إلا أنها دائن رئيس لعديد من الدول الإفريقية".
ويضيف "بالطبع لا يمكن القول إن الصين تسببت في أزمة الديون الإفريقية، بل على العكس أحيانا كان الاقتراض من الصين يصب في مصلحة القارة وشعوبها، ففي عام 2021 فرض المقرضون من القطاع الخاص أسعار فائدة بنسبة 5 في المائة بينما فرض المقرضون الصينيون والمقرضون متعددو الأطراف أسعار فائدة بنسبة 2.7 و1.3 في المائة على التوالي".
لكن عدم قدرة كثير من البلدان الإفريقية على سداد ما عليها من ديون، يعني أن الصين والبلدان الغربية لديهم مصلحة مشتركة في مد يد العون لإنقاذ القارة من أزمة الديون، إلا أن التوترات السياسة والاقتصادية المتزايدة بين الصين من جانب والغرب والمؤسسات المالية العالمية من جانب آخر تعني أن الآلية المتعلقة بتخفيف أعباء الديون بشكل متعدد الأطراف لا تعمل بشكل فعال أو تعمل لكن ببطء شديد.
تشير البيانات الدولية إلى أنه في هذا العام ستبلغ القيمة الإجمالية لاستحقاقات مدفوعات الديون الإفريقية 69 مليار دولار أي أكثر من كل المساعدات التي تلقتها القارة في عام 2021، وستنفق الحكومات الإفريقية 10 في المائة من إيراداتها لخدمة القروض، وذلك ثلاثة أضعاف المدفوع قبل عقد من الزمن. ولفهم خطورة الوضع فإن 17 مليون شخص سيلتحقون بفئة الفقر المدقع إذا عجزت الـ14 دولة الأكثر عرضة لخطر ضائقة الديون عن سداد خدمة الدين هذا العام.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، براين سميث الباحث في قضايا الديون "لتجنب التخلف عن السداد يقوم عديد من البلدان بإعادة التمويل من خلال البحث عن مزيد من التمويل من مصادر بديلة، فالصين على سبيل المثال قدمت أكثر من 240 مليار دولار من قروض الإنقاذ بين عامي 2018 - 2021 وهي تقترب من صندوق النقد الدولي لتكون مقرض الملاذ الأخير".
ويضيف "لكن كثيرا من التدابير المحلية لمواجهة أزمة الديون يؤدي إلى تفاقمها على الأمد الطويل، ففي أغلب الأحيان يقوم كثير من الحكومات بإجراء تخفيضات جذرية في الميزانية المحلية من خلال خفض الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم وغير ذلك من الإنفاق الاجتماعي، تلك التخفيضات توفر راحة مؤقتة لكنها تأتي على حساب الصحة الاقتصادية ورأس المال البشري على المدى الطويل، ما يهدد بانهيار عقود من التقدم الاقتصادي".
على الجهة الأخرى، يرى بعض الخبراء أن إلقاء مسؤولية الإخفاق في إدارة أزمة الديون على عاتق الحكومات الإفريقية وحدها يحمل في طياته كثيرا من الغبن البين، فالبلدان الإفريقية تواجه نظاما ماليا عالميا غير عادل يجعل البلدان الفقيرة تدفع أكثر لديونها من البلدان الغنية، فعند اقتراض بلد إفريقي يتم فرض قسط إضافي تلقائيا عليه بنسبة 2.9 في المائة لمجرد أنه موجود في إفريقيا، وقبل عامين أنفقت الأسواق الناشئة ما يقرب من 8 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي لخدمة الدين، وفي الاقتصادات المتقدمة بالكاد وصل هذا المعدل إلى 1 في المائة، وخلال جائحة كورونا تم خفض التصنيف الائتماني لنحو 41 في المائة من البلدان الإفريقية، ما رفع معدل الفائدة واجبة السداد على ما تتلقاه من قروض.
هذا الوضع يجعل البعض يحمل وكالات التصنيف الائتماني الثلاث الكبرى "ستاندرد آند بورز، وموديز، وفيتش" جزءا كبيرا من أزمة المديونية الإفريقية، فالوكالات الثلاث تقيم أكثر من 90 في المائة من أسواق الديون، وتقوم بتسعير المخاطر التي تتعرض لها الحكومات الإفريقية، وغالبا ما تبالغ في تقدير المخاطر في هذه الأسواق وتحدد معدلات أعلى من اللازم بالنسبة إلى البلدان الإفريقية، وتتفاقم المشكلة بسبب أن وكالات التصنيف الائتماني تتمتع بخبرة محدودة نسبيا في أسواق البلدان ذات الدخل المنخفض.
يرى الدكتور دامين كلارك الاستشاري السابق في صندوق النقد الدولي أن مشكلة الديون الإفريقية كبيرة وهناك عديد من الجهات الفاعلة التي تستحق تقاسم اللوم، وفي حين إن المؤسسات الدولية من قبيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أكبر اللاعبين في تلك المشكلة، فإنه لا يمكن تجاهل الدور الصيني والدائنين من القطاع الخاص، ودور نادي باريس، كما أن الولايات المتحدة وحلفاءها في مجموعة السبع لم يسعوا لإصلاح النظام المالي العالمي على الرغم من إقرارهم بأنه غير عادل ومنصف.
ويضيف "حل أزمة الديون الإفريقية يتطلب إشراك كل اللاعبين، وتوجيه أصابع الاتهام إلى طرف محدد لن يساعد على التوصل إلى حل، وقد فشلت الجهود الدولية السابقة جزئيا لأنها فشلت في التكيف مع احتياجات جميع المقرضين والمقترضين، ولن تحل تلك الأزمة من تلقاء نفسها، وهذا يعني أنه إذا لم تتعاون الولايات المتحدة والصين ونادي باريس لحل مشكلة الديون الإفريقية فإن الأزمة لن تتفاقم فقط، بل ستنفجر حتما، وستحطم في طريقها الإنجازات التي حققتها القارة في عقود".

الأكثر قراءة