أوروبا والذكاء الاصطناعي .. تشتت القوة أضاع السبق وكسر احتكار الثنائي العالمي
يدرك الأوروبيون مثلهم مثل باقي سكان العالم أن المستقبل مليء بالتحديات، ومن ثم يجب العمل من الآن لوضع خطط تفصيلية لمواجهتها والتغلب عليها، لكن بعضا من تلك التحديات يتمتع بما يمكن وصفه بـ"الاهتمام الشعبي" نتيجة التركيز الإعلامي المفرط عليه، فقضايا مثل الهجرة غير الشرعية والتضخم وقضايا الطاقة والمشكلات البيئية وأزمة الإسكان، جميعها مشكلات يدرك رجل الشارع الأوروبي خطورتها الآن ومستقبلا، عليه وعلى مستوى معيشته، كما أن الحديث عن تلك المشكلات المقبلة والاشارة إليها يحتل حيزا كبيرا من خطب وأحاديث القادة والسياسيين.
هناك مجموعة أخرى من التحديات المستقبلية التي تواجه قارة أوروبا العجوز، ولربما تكون من وجهة نظر الخبراء أكثر خطورة وتعقيدا من التحديات التي تحظى بالاهتمام الشعبي، لكنها مع هذا لا تلقى الاهتمام الكافي من وسائل الإعلام، ولا حتى في الأحاديث والخطب العامة للسياسيين والقادة الأوروبيين، وقد يعود عدم الاهتمام الشعبي إلى أنها تحديات ذات طبيعة مختصة إذا جاز التعبير، ورغم أن رجل الشارع لا يعلم عنها كثيرا، فإن قادة القارة والخبراء لا يكفون في البحث عن حلول لها لإدراكهم أن مركز أوروبا وثقلها ومكانتها على الساحة الدولية يرتبط بما تحققه من إنجاز في مواجهة تلك التحديات.
الذكاء الاصطناعي أحد أخطر التحديات التي تواجه أوروبا المستقبل، مع هذا سيكون من المبالغ فيه القول إن المواطن الأوروبي العادي المهموم بمشكلات الحياة اليومية يعطي حيزا من اهتمامه لتلك القضية، ويهتم كثيرا بتفاصيل قدرة قارته في التعامل مع أنظمة الذكاء الاصطناعي، في المقابل يمثل وضع القارة في مجال صناعة الذكاء الاصطناعي مصدر إزعاج وقلق لقادتها أجمعين، حيث ينتابهم شعور صادق بأن أوروبا وصلت متأخرة بعض الشيء في هذا المجال، ولم تتمكن من الاطلاع بعد بدور مهم في الثورة الرقمية والصراع بين الولايات المتحدة والصين من أجل هيمنة الذكاء الاصطناعي.
وقال لـ"الاقتصادية" أريك وينديجن الباحث والخبير في مجال الاقتصاد الرقمي، "إن القارة الأوروبية لا تمتلك وادي السيليكون الخاص بها، ولا شنزن الصينية، ولا تمتلك عمالقة تكنولوجيا من قبيل أمازون وجوجل وميتافيرس وعلى بابا أو تينسينت، وهذا يدفع عددا من كبار القادة الأوروبيين إلى التساؤل، هل بات في مقدرة القارة الأوروبية، التي شهدت فجر الثورة الصناعية، ما تفعله لكسر الاحتكار الثنائي الفعلي بين الولايات المتحدة والصين في مجال أنظمة الذكاء الاصطناعي؟
وربما كانت الإجابة التي يمكن استشفافها من بين سطور أحاديث وتعليقات القادة الأوروبيين، أن الوقت قد فات لإنشاء شركة تكنولوجيا ضخمة خاصة بالقارة، أو أن تمتلك أوروبا واحدة من الشركات العالمية القوية القادرة على إحداث تغير في قواعد السوق في مجال الاقتصاد الرقمي أو الذكاء الاصطناعي، لكن هذا لا يعني أن أوروبا قد خرجت من سباق العصر الذي سيحدد لمن الغلبة والقيادة العالمية.
ويستدرك قائلا "يقدر خبراء الاتحاد الأوروبي في مجال أنظمة الذكاء الاصطناعي أنه إذا قامت أوروبا بتطوير ونشر الذكاء الاصطناعي فسيكون في قدرتها إضافة نحو 2.7 تريليون يورو أو 20 في المائة إلى ناتجها الاقتصادي الإجمالي بحلول عام 2030، أما إذا تجاوزت الصين ولحقت بالولايات المتحدة فمن الممكن إضافة ما مجموعه 3.6 تريليون يورو إلى الناتج المحلي الإجمالي".
يبدو القلق الأوروبي من وضع القارة في مجال الذكاء الاصطناعي مشروعا، فوتيرة نشر الذكاء الاصطناعي والاستثمار فيه تظل محدودة في القارة الأوروبية مقارنة بالعملاقين الأمريكي والصيني، رغم أن الناتج المحلي الإجمالي في أوروبا يفوق نظيره في الصين ويساوي الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة.
إلا أن الجزء الرقمي من قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في أوروبا يمثل 1.7 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تبلغ تلك النسبة في الصين 2.1، وفي الولايات المتحدة 3.3 في المائة.
من جانبه، يكشف لـ"الاقتصادية" الدكتور إم. إس. توماس أستاذ الإلكترونيات في جامعة شفيلد تفاصيل الفجوة الراهنة بين أوروبا ومنافسيها في مجال أنظمة الذكاء الاصطناعي، بالقول "قامت مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار بتقييم الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة والصين وأوروبا باستخدام 30 مقياسا منفصلا، بما في ذلك المواهب البشرية والنشاط البحثي والتطوير التجاري والاستثمار في الأجهزة والبرمجيات، ووجد التقرير الذي استند إلى بيانات العام الماضي أن الولايات المتحدة تتصدر المشهد بـ44.6 نقطة على مقياس مكون من 100 نقطة، تليها الصين بـ32 نقطة والاتحاد الأوروبي بـ23.3 نقطة فقط".
وأشار التقرير إلى أن الولايات المتحدة رائدة في مجالات رئيسة مثل الاستثمار في الشركات الناشئة وتمويل البحث والتطوير، لكن الصين قطعت خطوات كبيرة في عديد من المجالات الأخرى، وكان لديها العام الماضي 214 جهاز كمبيوتر فائق القوة مقارنة بـ113 في الولايات المتحدة، بينما لم يزد نصيب الاتحاد الأوروبي على 91 جهاز كمبيوتر فائق السرعة.
وخلص التقرير إلى أن أوروبا كي تكون قادرة على المنافسة، فإنها بحاجة إلى تعزيز الحوافز الضريبية البحثية وتوسيع معاهد البحوث العامة العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي.
لكن القلق الراهن لدى خبراء الذكاء الاصطناعي الأوروبيين لا يقف عند حدود الشعور بأن القارة الأوروبية تقع في مرتبة لا تليق بها في هذا المجال الاستراتيجي، فالاتحاد الأوروبي سوق ضخمة تضم 450 مليون نسمة، وتتمتع بقدرة شرائية عالية.
ويبلغ متوسط دخل الفرد 30 ألف يورو سنويا، ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي نظيره في الولايات المتحدة، فضلا عن تقدم النظم التعليمية والتدريبية في القارة وامتلاك قدرات تكنولوجية وابتكارية رفيعة المستوى، ورغم ذلك تحتل القارة مرتبة متدنية في تلك الصناعة الرائدة مقارنة بالولايات المتحدة والصين.
هذا الوضع يدفع إلى تزايد التحذيرات في الآونة الأخيرة، من تنامي اعتماد شركات الاتحاد الأوروبي يستخدم 8 في المائة منها فقط الذكاء الاصطناعي، على الشركات الأمريكية والصينية للوصول إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي العامة التي تشكل بشكل متزايد العمود الفقري لمنتجات مثل برامج الدردشة الآلية أو رسائل البريد الإلكتروني.
وحتى الآن لم تفلح أي دولة من دول الاتحاد الأوروبي في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي للأغراض العامة بسبب الكم الهائل من الأموال والبيانات التي تتطلبها عملية بناء مثل تلك الأنظمة، ما يدفعها إلى الاعتماد على الأنظمة التي تم تطويرها في أماكن أخرى.
مع ذلك، يرى الخبراء أن أوروبا لا تزال تتمتع بأصول قوية يمكن أن تساعدها على احتلال موقع متقدم في الموجة الثانية من سباق الذكاء الاصطناعي، فالقارة لديها ستة ملايين مطور محترف، وهذا يفوق عدد المطورين في الولايات المتحدة، والقارة لديها نحو 25 في المائة من الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، و10 في المائة من الشركات الرقمية، لكن نقطة القصور لديها تكمن في أن استثماراتها تتخلف عن استثمارات الولايات المتحدة والصين.
أوروبا لم تجتذب سوى 11 في المائة فقط من رأس المال الاستثماري العالمي في أنظمة الذكاء الاصطناعي، وحصلت الولايات المتحدة على 50 في المائة، بينما توجهت النسبة الباقية إلى القارة الآسيوية وفي الأغلب إلى الصين.
مع هذا، يرى البعض أن قضية الفجوة الأوروبية في أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تقف عند حدود المنافسة بين أوروبا من جانب والولايات المتحدة والصين من جانب آخر، إذ إن الفجوة أكثر وضوحا داخل أوروبا ذاتها.
بدورها، ذكرت لـ"الاقتصادية" الدكتورة نادين دورسي أستاذة الاقتصاد الأوروبي في جامعة لندن، أن "بلدان دول أوروبا الشمالية الأكثر تقدما اقتصاديا تتصدر المشهد، وبعضها يسبق الصين في تخصصات ومجالات محددة في أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، بينما تتأخر دول جنوب وشرق أوروبا، والمظهر الرئيس للاختلافات يظهر بين الدول الأكثر استعدادا للاعتماد على الذكاء الاصطناعي والأخرى الأقل استعدادا في دمج الذكاء الاصطناعي في منظومتها المجتمعية والاقتصادية، ما يحد الفوائد المحتملة للسباق التنافسي بين أوروبا ككل ومنافسيها، كما أن الدول الأقل استخداما لأنظمة الذكاء الاصطناعي تعاني نقص المهارات التي تساعدها على جني الفوائد منه".
وتشير الإحصاءات الأوروبية إلى أن أيرلندا تتصدر حاليا مؤشر الاتصال بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وفنلندا في رأس المال البشري، والمملكة المتحدة في الابتكار، ورغم أن ذلك يشير إلى تشتت نقاط القوة الأوروبية، إلا أن بلدان القارة، يمكن أن تستعير أفضل الممارسات من بعضها بعضا لتوفير بيئة أكثر ملاءمة وأكثر تمكينا في مجال الذكاء الاصطناعي.
تحتاج أوروبا إلى تعظيم الاستفادة من عوامل القوة التي تتمتع بها في مجال الذكاء الاصطناعي، إلا أن هذا قد يكون صعبا بالنسبة إلى كثير من الدول الأوروبية، نظرا للحاجة إلى استثمارات ضخمة ربما لا تتوافر لديها خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتعثرة التي تمر بها أغلب بلدان القارة حاليا.
لكن في الوقت ذاته، فإن فشل أوروبا في التعجيل بتبني استخدام الذكاء الاصطناعي بكثافة لن يعني الفشل في اللحاق بالولايات المتحدة والصين فحسب، بل يعني إضاعة فرص تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات، وعدم تعزيز قدرتها الإنتاجية، وزيادة ناتجها المحلي الإجمالي، وتحقيق قفزات في تجاراتها الخارجية، والأكثر خطورة أن الاقتصاد الأوروبي سيفقد ديناميكيته المعتادة في عصر تتغير فيه قواعد اللعبة الاقتصادية جذريا.