عدو الاقتصاد العالمي .. السياسة الجغرافية «1من 2»

"يبدو أن عصر التجارة الحرة قد انقضى. ترى كيف قد يكون أداء الاقتصاد العالمي في ظل سياسات الحماية؟".
هذا أحد الأسئلة الأكثر شيوعا التي أسمعها في أيامنا هذه. لكن التمييز بين التجارة الحرة وسياسات الحماية "مثل التمييز بين الأسواق والدولة، أو النزعة التجارية والليبرالية"، ليس مفيدا على وجه خاص في فهم الاقتصاد العالمي. فهو لا يحرف التاريخ فحسب، بل يسيء أيضا تفسير التحولات السياسية الراهنة والظروف اللازمة لضمان اقتصاد عالمي متعاف.
تستحضر عبارة "التجارة الحرة" صورة لحكومات تفسح المجال للأسواق لتسمح لها بتحديد النتائج الاقتصادية بنفسها. لكن أي اقتصاد سوق يتطلب الاستعانة بقواعد وضوابط تنظيمية ـ معايير للمنتجات، وضوابط تحكم السلوك التجاري المانع للمنافسة، وضمانات للمستهلكين والعمالة والبيئة، ووظائف الملاذ الأخير للإقراض والاستقرار المالي ـ التي تعلنها وتنفذها الحكومات عادة.
علاوة على ذلك، عندما تترابط الهيئات المختصة الوطنية عبر التجارة الدولية والتمويل الدولي، تنشأ تساؤلات إضافية: أي القواعد والضوابط التنظيمية التي تقرها الدول المختلفة ينبغي أن تكون لها الأسبقية عندما تتنافس شركات الأعمال في الأسواق العالمية؟ هل ينبغي لنا إعادة تصميم القواعد من خلال المعاهدات الدولية والمنظمات الإقليمية أو العالمية؟
عندما ننظر إلى الأمر في هذا الضوء، يصبح من الواضح أن العولمة المفرطة ـ التي دامت منذ أوائل تسعينيات القرن الـ20 تقريبا حتى اندلاع جائحة كوفيد - 19، لم تكن فترة من التجارة الحرة بالمعنى التقليدي. فلم تكن الاتفاقيات التجارية الموقعة على مدار الأعوام الـ 30 الأخيرة مهتمة في الأساس بإزالة القيود المفروضة على التجارة والاستثمار عبر الحدود بقدر ما كانت حريصة على فرض معايير تنظيمية، وقواعد الصحة والسلامة، والاستثمار، والخدمات المصرفية والمالية، وحقوق الملكية الفكرية، والعمل، وغير ذلك كثير من القضايا التي كانت في السابق تقع ضمن نطاق السياسة الداخلية.
كما لم تكن هذه القواعد محايدة. بل كانت تميل إلى إعطاء الأولوية لمصالح الشركات الكبرى ذات الصلات السياسية القوية، مثل البنوك الدولية، وشركات الأدوية، والشركات متعددة الجنسيات، قبل أي شيء آخر. لم تتمتع هذه الشركات بقدرة أفضل على الوصول إلى الأسواق على مستوى العالم فحسب، بل كانت أيضا المستفيد الرئيس من إجراءات التحكيم الدولي الخاصة في إلغاء الضوابط التنظيمية الحكومية التي تسببت في تخفيض أرباحها.
على نحو مماثل، كانت قواعد الملكية الفكرية الأكثر صرامة -التي تسمح لشركات الأدوية والتكنولوجيا بإساءة استخدام مراكزها الاحتكارية- تهرب إلى الداخل تحت ستار التجارة الأكثر حرية. ودفعت الحكومات دفعا إلى تحرير تدفقات رأس المال، في حين ظلت العمالة محاصرة خلف الحدود. كما أهملت قضايا مثل تغير المناخ والصحة العامة، وهو ما يرجع جزئيا إلى حقيقة مفادها أن أجندة العولمة المفرطة زاحمت هذه القضايا، ولكن أيضا لأن إيجاد المنافع العامة في أي من المجالين كان ليتسبب في تقويض مصالح الشركات.
في الأعوام الأخيرة، شهدنا ردة فعل عكسية عنيفة ضد هذه السياسات، فضلا عن إعادة النظر على نطاق واسع في الأولويات الاقتصادية في عموم الأمر. الواقع أن ما ينتقده بعض المراقبين بوصفه سياسات حماية ونزعة تجارية خالصة هو في الحقيقة عملية لإعادة التوازن نحو معالجة قضايا وطنية مهمة، مثل إزاحة العمالة، والمناطق المتخلفة عن الركب، والتحول المناخي، والصحة العامة. هذه العملية ضرورية لمعالجة الضرر الاجتماعي والبيئي الواقع بسبب العولمة المفرطة، وإنشاء شكل أكثر صحة من العولمة للمستقبل... يتبع.
خاص بـ «الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2023.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي