إدارة الخدمات والعلوم السلوكية
فكرة الاستفادة من العلوم السلوكية في عالم الأعمال لم تعد شيئا جديدا، رغم حداثة الربط بين النظريات والتطبيقات الخاصة بذلك. عالم الخدمات مرتبط بالسلوك مباشرة، لأن الخدمة في العادة تحدث فوريا ويمارس العميل تجربة الخدمة في لحظة تقديمها نفسها ـ مقارنة بالمنتج المحسوس الذي يجربه في مكان وزمان مختلف عن مكان تسليم المنتج. لكن مع ذلك يقول البروفيسور ريتشارد تشيز وهو أحد كبار الباحثين في مجال إدارة الخدمات إن تفاعلات العميل النفسية والعاطفية مع الخدمة لا تزال بعيدة عن فهم مقدم الخدمة. والحل - بحسب رأيه - يكون في التعمق أكثر في فهم الجوانب السلوكية للعميل، وفهم المبادئ السلوكية الطبيعية التي درسها علماء الاجتماع سابقا مثل التحيزات وغيره، وهذا الحل هو واجب أساس على قيادات الأعمال بالدرجة الأولى، حتى يمكن تبنيه وتمريره ليصل تأثيره إلى العميل.
حتى نفهم أسلوب التفكير والتنفيذ المطلوب هنا، دعونا ننظر إلى كيفية التعامل مع أحد المبادئ الشهيرة في عالم السلوكيات وهو تحيز الترسية أو Anchoring الذي يقصد به الاعتماد على معلومة واحدة أو معلومات محدودة والتهميش من أخرى بشكل يؤثر في اتخاذ القرار. وفي نطاق تقديم الخدمة يمكن تصميم التعامل مع العميل بشكل استراتيجي يقوم على الارتكاز على معلومات محددة في بداية العلاقة لتؤثر في تصورات العميل، أحد أبسط الأمثلة هو الاستمرار بتذكير العميل بسعر الخدمة السابق أو الأصلي قبل عرض السعر المخفض، حيث تظهر له قيمة التخفيض بشكل أكبر.
لا تحدث القيمة هنا بمجرد تنفيذ عملية ترسية بسيطة مثل هذه، إنما في فهم سلوك العميل تجاه هذه الترسية التي حاول صاحب الخدمة أن ينفذها. وهذا يعني تنفيذ دورة القياس والتحليل والفهم بالكامل بشكل مدروس ومنتظم وعميق. وبهذا يتمكن مقدم الخدمة من التأثير في سلوك العميل أو الاستجابة لسلوك العميل بشكل يحقق القيمة المنشودة.
يمكننا تفصيل دورة القياس والتحليل والفهم لهذا الغرض بالخطوات التالية. أولا، فهم مبادئ وتطورات تطبيقات العلوم السلوكية جيدا والاطلاع على آخر الممارسات المرتبطة بتحسين الخدمة موضع النظر.
ثانيا، دمج تكتيكات فهم العلوم السلوكية في عملية تصميم وتحليل نقاط القياس.
ثالثا، القياس الدقيق والمستمر عن طريق تنفيذ أبحاث العميل التي تغطي الممارسات والتوقعات والتفاعلات.
رابعا، القيام بالاختبارات المصممة لغرض الفهم والتعلم وليس للأغراض البيعية المباشرة فقط.
خامسا، الاستفادة من الخبراء وهذا لا يشمل خبراء التسويق وخدمة العميل فقط، بل المختص النفسي والاجتماعي الذي يستطيع إضافة بعد جديد على عملية الفهم والاستقصاء.
سادسا، المراقبة المستمرة والتحليل المركز الذي يكتشف نقاط التطوير والتحسين ويبرز الأولويات المؤثرة في جودة تقديم الخدمة.
وأخيرا، إعادة تصميم وتطوير الخدمة والاستمرار في الخطوات السابقة بشكل منتظم ودائم.
وإضافة إلى ما نعرفه اليوم من تحيزات معرفية أو تفاعلات سلوكية يمكن البناء عليها للوصول إلى فهم أفضل لسلوك العميل ومواءمة الخدمة التي تقدم له، يجمع البروفيسور ريتشارد تشيز وزميله سريرا مداسو في ورقة عملية نشرت في مجلة HBR خمسة مبادئ عملية مبنية على العلوم السلوكية ومناسبة لمقدمي الخدمات.
الأول، هو الإنهاء القوي، وهذا عكس ما يظنه البعض بأن البداية الجيدة مكافئة للإنهاء الجيد، لكن الإنهاء القوي "المرضي" للخدمة من أهم ما يمكن أن يرحل به العميل ويسمح له بالعودة مجددا.
ثانيا، التخلص من التجارب السيئة مبكرا، وهذا يعني اكتشافها في الوقت المناسب.
ثالثا، توزيع نقاط المتعة والسرور وجمع نقاط الألم، والمقصود به أن تفهم هذه المواضع في رحلة تقديم الخدمة وأن تتم إعادة ترتيبها بشكل يجعل تفاعل العميل يلحظ الإيجابيات أكثر من السلبيات.
رابعا، بناء الالتزام عن طريق الاختيار، ويقصد به ما أثبتته الأبحاث بأن العملاء يريدون أن يشعروا بأنهم يملكون الخيار، تماما مثلما يحصل عند الطبيب عندما يضع الحل الصعب "العملية الجراحية" كأنه اختيار.
وأخيرا، صنع العادات عن طريق الخدمات ثم الالتزام بها، اختيار هذا المبدأ قائم على طبيعة سلوكية متأصلة لدى العملاء ويمكن البناء عليها.
وهكذا، يتضح لنا كيف أن فهم هذه المبادئ السلوكية والقيام بعملية القياس والتحليل بشكل مركز وذكي، يمثل مدخلا مهما وأساسا لعملية إدارة الخدمات وتطويرها. ومع ذلك، يتجاهل كثير من مديري الخدمات هذه المبادئ ويعتمدون فقط على كلاسيكيات إدارة الخدمات التقليدية القاصرة عن قياس هذه الجوانب المهمة لصعوبة قياسها أو ربما بسبب الجهل أو التعالي.