جائزة عبدالله بن إدريس الثقافية .. في ذكرى الفذ الذي حفظ شعر نجد
هو الحاضر في غيابه، في هيئته شيء من البشاشة والابتسامة الدافئة، وما بين شعر ونثر أمضى الأديب عبدالله بن إدريس - رحمه الله – حياته الحافلة بالعطاء، حمل على عاتقه طوال تسعة عقود مهمة صون الشعر السعودي، ولا سيما شعراء نجد وإرثهم الشعري الممتد، معرفا به عربيا ودوليا.
رائد الأدب وصاحب السيرة العطرة، أعاد ذكراه أبناؤه لينعش الحركة الثقافية في المملكة من خلال "جائزة عبدالله بن إدريس الثقافية"، بعد أقل من عامين على رحيله، لتوقظ هذه الجائزة ذاكرة محبيه، ولا سيما متذوقي شعره العذب، النابع من مشاعر إنسانية مرهفة وصادقة.
جائزة لإثراء المشهد الثقافي.. 3 أفرع
واسع القلب، والرجل الاستثنائي بأكثر من معنى للكلمة، حضر من خلال جائزة تحمل اسمه (جائزة الشيخ عبدالله بن إدريس الثقافية)، أطلقتها مؤسسة عبدالله بن إدريس الخيرية، لتعلن عن فتح باب الترشيح لدورتها الأولى بدءا من 17 أغسطس، حتى 16 أكتوبر المقبل.
تستذكر "جائزة عبدالله بن إدريس" إرثه الثقافي الخالد، وتعزز بيئة الإبداع الثقافي عربيا، لتحتفي بالمواهب وتبرز نتاجها، ويؤكد أمين عام المركز المهندس سامي الحصين لـ"الاقتصادية" أن الجائزة جاءت لتسهم في جهود وزارة الثقافة لتعزيز المشهد الثقافي السعودي، ومساهمة من القطاع الثالث في هذا المجال، وتسهم في ذلك من خلال السعي لاكتشاف وإبراز المبدعين والمميزين في المجالات الثقافية المختلفة.
وتضيف الجائزة - وفقا للحصين - بعدا آخر ألا وهو التحفيز على الكتابة في مواضيع حيوية ومهمة، التي حددتها في أفرعها الثلاثة المختلفة، وهي القضايا الوطنية، والقيم والأخلاق، والمعارضة الشعرية. فتركز في فرعها الأول على الوطن تخليدا لمسيراته وتوثيقا لإنجازاته، ويأتي الفرع الثاني ليتحدث عن المستقبل المأمول والتحديات التي تواجهنا وعلينا تجاوزها محافظين على إرثنا وقيمنا، ويأتي المحور الثالث تكريما للأجيال السابقة من الشعراء والأدباء والمثقفين من خلال معارضة قصائدهم، حيث اختيرت قصيدة لمعارضتها وهي (أأرحل قبلك أم ترحلين) للشيخ عبدالله بن إدريس رحمه الله.
وبين أن الجائزة تنطلق في عامها الأول بموضوع الشعر تزامنا مع إعلان وزارة الثقافة هذا العام "عام الشعر العربي"، على أن تتوسع في دوراتها المقبلة لتشمل فروع الثقافة المختلفة، وتشرف عليها أمانة تضم خبراء في المجال الثقافي وفي مجال الموهبة والإبداع، كما أن الجائزة لا تقتصر على إعلان الفائزين وتكريمهم معنويا وماديا، بل تمتد للمساهمة في انتشار نتاجهم من خلال طباعة القصائد المميزة في دواوين الجائزة السنوية، التي ستحوي المشاركات المميزة التي تختارها الجائزة.
جوهرة جديدة في عقد الثقافة
صرح الأمين العام للجائزة البروفيسور عبدالله بن محمد الجغيمان لـ"الاقتصادية" بأن جائزة الشيخ الأديب عبدالله بن إدريس جوهرة جديدة في عقد الثقافة العربية، وإحدى مساهمات المملكة في تعزيز الهوية الثقافية للغة الضاد، وكان للأديب الراحل عبدالله بن إدريس رحمه الله دور كبير في إثراء الساحة الثقافية شعرا وأدبا، وشكل إنتاجه الثقافي لونا جديدا إبداعيا في الثقافة العربية، خلد به اسمه في تاريخ الأدب السعودي والعربي.
وأشار إلى أن هذه الجائزة تخدم الساحة الثقافية من جهتين: الأولى إحياء تراث الأديب الراحل ليبقى حاضرا حيا في ذاكرة الثقافة العربية، والثانية تشجيع المثقفين على إثراء الساحة الثقافية من خلال محفزات فكرية تطرحها الجائزة في كل دورة من دوراتها تتحدى بها قرائحهم الفكرية وتستحث إبداعاتهم الثقافية"، حيث تعد الجائزة إحدى مبادرات مركز عبدالله بن إدريس الثقافي الذي انطلق مطلع هذا العام، وكانت باكورة نشاطاتها تكريم المهندس عبدالله الرخيص بمناسبة إنجازه ترجمة مليون كلمة من خلال ترجمة أكثر من 450 مقالا علميا واقتصاديا وثقافيا، تلاه إطلاق الجائزة التي ستكون دورتها كل عامين، إلى جانب عديد من المبادرات التي ستطلق ضمن خطة المركز للعامين المقبلين.
الشاعر يوثق حياة "شعراء نجد"
يحسب للشاعر الراحل، ابن بلدة حرمة التابعة لإقليم سدير، أنه أصدر كتابا قيما حمل عنوان "شعراء نجد المعاصرون"، حينما رأى الحركة الأدبية مغفلة من قبل الشعراء والأدباء والمثقفين، في الوقت الذي صدرت فيه كتبا ترصد وتتكلم عن الحياة الشعرية المعاصرة في الحجاز، واستغرق تأليف الكتاب نحو عامين، بعد أن قابل الشعراء الموجودين في الرياض، وكتب إلى من هم في المناطق والمدن الأخرى، وطلب من كل شاعر أن يمده بأجمل وأقوى قصائده الشعرية، مع استبعاد نوعين من الشعر (هما المديح والهجاء)، وحدد عدد القصائد المطلوبة، بحيث لا تقل عن عشر قصائد، ولا تزيد على 15 قصيدة، مع ترجمة موجزة عن حياة الشاعر ونتاجه الأدبي.
شموخ صحراوي بوجدان بحري
العلم عبدالله بن إدريس شاعر نبت في الصحراء، صنف لدى النقاد بانتمائه للمدرسة الرومانسية في الشعر، لكن ما بين زورقه البحري وشموخه الصحراوي حكاية تستحق أن تروى.
كتب ابن إدريس سيرته مرتين، مرة حينما كتبها نثرا في كتابه "قافية الحياة"، ومرة بعد مماته حينما جمعها أبناؤه في كتاب "الأعمال الشعرية الكاملة"، مرتبة حسب تواريخ كتابتها، وليس حسب موضوعاتها أو نزولها في الدواوين، ما يصوغ للقارئ ومتذوق الشعر صورة سيكولوجية لشخصية الشاعر حسب مراحل عمره، في قلقه وهمومه ونزواته ورغباته وامتناعاته ورضاه وسخطه، حيث يمكن وصفها بأنها سيرة ذاتية كتبت عفويا بالشعر.
نجل الراحل، الدكتور زياد الدريس، كتب في مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة بأنه يرى بأن السمة الأبرز في شعره والده هي النزعة الدينية المنسابة في شعره منذ "صبوات" الشباب حتى وقار الشيخوخة، تدين يراوح بين السلفية الساكنة حتى يتصاعد أحيانا إلى ما يشبه الشعر الصوفي في تجلياته التأملية، يبدو هذا التدين جليا في قصائد مكرسة لذلك، أو في أبيات متناثرة بين القصائد الأخرى، بل إن التدين يلازم ابن إدريس حتى في بعض قصائده الغزلية، وهي ظاهرة لافتة لشاعر استطاع أن يزاوج - دون تناقض - بين وجوده الشرعي ووجدانه الشعري.
ومما يلفت القارئ، أن لغة الشاعر الراحل عبدالله بن إدريس "بحرية" بامتياز، فأشهر قصائده هي "في زورقي"، وجعلها اسما لديوانه الأول، ثم صدر بعدها ديوانه الثاني بعنوان "إبحار بلا ماء"، فما حكاية هذا الشاعر الصحراوي مع البحار؟
يتابع الدكتور زياد الدريس بأن مما يزيد العجب أكثر، هو أن الراحل لا يعرف السباحة، لا في الآبار ولا البحار ولا المسابح، كما أنه لا يظن أن عدد المرات التي ركب فيها والده خضم البحر تتجاوز عدد مرات ركوب الأوروبيين الجمل! ما يثبت أن هناك سرا بحريا في أعماق العقل الباطن لابن إدريس، إذ لن تجد في أعماله الكاملة سوى ثلاث قصائد بصوت الصحراء هي (جولة في روضة)، و(فجر الربيع)، و(أزهار)، وهذا يدعو للعجب بالنسبة إلى شاعر نبت في الصحراء.
وملمح بحري آخر يشير إليه نجله، وهو أن ابن إدريس في أكثر من صورة شعرية في سيرته عندما يواجه مأزقا يتطلب منه الهروب أو الالتجاء، فإنه لا يستخدم الجمل أو الحصان كما هو ديدن الصحراويين، بل يستخدم (الزورق)، لذلك يجازف بالقول الدكتور زياد الدريس بأنه في سياق تحليل تلك النزعة البحرية الطافرة: إن عبدالله بن إدريس كائن صحراوي.. بوجدان بحري.
"الجائزة" حلقة من سلسلة *
في 29 مايو 2023 دشن أمير منطقة الرياض (مركز عبدالله بن إدريس الثقافي). واليوم، بعد مرور ثلاثة أشهر فقط من التدشين، نطلق بحضور عدد من القيادات الثقافية في هذه البلاد، (جائزة عبدالله بن إدريس الثقافية)، بمجالاتها الثلاثة: القضايا الوطنية، والتحديات المعاصرة، والمعارضة الشعرية. وما الجائزة إلا حلقة من سلسلة طويلة من العمل والحماس الذي يبديه زملائي النبلاء أعضاء المجلس التأسيسي للمركز الثقافي. لنؤكد جميعا على رسالة أطلقناها في يوم التدشين بأن المركز يحمل اسم المثقف والشاعر والناقد "عبدالله بن إدريس" يرحمه الله، لكنه في أهدافه ونشاطاته منفتح على حفظ وتعزيز الإرث الثقافي الذي أبقاه ابن إدريس ومجايلوه من جيل الرواد في الزمن الماضي. كما يستشرف المركز أيضا خدمة وإبراز النتاج الثقافي الذي سينتجه مثقفو الزمن الحاضر والمستقبل بعون الله. تنهض هذه الجائزة، مشمولة برعاية وزارة الثقافة الموقرة، ومحاولة الاصطفاف بجوار الجوائز الثقافية المتميزة محليا وعربيا، وحاملة مثل رصيفاتها من الجوائز هم تعزيز القيم والإبداع، في وطننا وفي عالمنا العربي، عبر مكافأة المواهب والمبادرات التي تستحق الالتفاتة المعنوية قبل المادية. ونأمل أن تحقق أهدافها المأمولة منها.
* زياد بن عبدالله الدريس - رئيس مجلس الأمناء