مشهد الاقتصاد العالمي ليس براقا

"أخطار التضخم مستمرة بعد الاضطرابات الاقتصادية العالمية"
كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي
يبدو واضحا أن التفاؤل بعودة النمو على الساحة العالمية بمعدلات جيدة، يواصل الاصطدام بمواقف المشرعين الاقتصاديين في الدول المؤثرة في الساحة الدولية. على الرغم من الانفراجات التي حدثت في الفترة الماضية، إلا أن توجهات التشدد النقدي لا تزال باقية، مع التمسك بأولوية "الحرب" على الموجة التضخمية، قبل أي شيء آخر، ورصدت ما أمكن من حراك فاعل، للسيطرة عليها، بصرف النظر عما إذا كان المشرعون سينجحون في جلب نسبة التضخم إلى الحد الأقصى المتفق عليه عالميا وهو 2 في المائة. فهذه النسبة لا تزال بعيدة عن واقع أسعار المستهلك، بما في ذلك على الساحة الأمريكية التي تمكنت بالفعل من إيصالها إلى حدود 3 في المائة، وهي الأدنى مقارنة ببقية الاقتصادات المتقدمة الأخرى.
الذي يعزز مؤشرات التشدد النقدي، وإبقاء ما كان سائدا قبل الأزمة الحالية من تيسير نقدي إلى مرحلة أخرى، أن جيروم باول رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي"، يعتقد أن النمو القوي لاقتصاد بلاده قد يتطلب زيادات إضافية لسعر الفائدة. في الوقت الذي كان العالم ينتظر إعلانا ما بصيغة "لطيفة" من المشرع الأمريكي، عن وقف الزيادات الدورية لتكاليف الاقتراض. صحيح أنه في المراجعة الأخيرة قبل شهر تقريبا أبقى على المستوى الحالي للفائدة عند 5.5 في المائة، لكنه ترك الباب مفتوحا "كغيره من البنوك المركزية الرئيسة الأخرى" لزيادات أخرى قبل نهاية العام الجاري. كل هذا وغيره من خطوات التشدد النقدي، يربك المشهد في ميدان النمو، الذي يأمل العالم أن يصل إلى مستويات مقبولة تغطي الخسائر التي مني بها الاقتصاد حول العالم من جراء جائحة كورونا والاضطرابات الاقتصادية الراهنة.
اللافت دائما، أن كريستين لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، التي كانت من أشد المعاندين لوقف سياسة التيسير النقدي مع هبوب الموجة التضخمية الحالية، باتت من الأشخاص الذين يوجهون التحذيرات لرؤساء البنوك المركزية، بأن يكونوا متنبهين تماما إلى ما يجري حاليا. فالخوف يأتي من "تسلل" التقلبات الكبرى في الأسعار النسبية إلى التضخم على المدى المتوسط، من خلال الأجور التي تلاحق الأسعار بشكل متكرر. هذه النقطة على وجه الخصوص تؤرق لاجارد، التي تدعم التشدد النقدي الآن أكثر من أي وقت مضى. والمسألة واضحة فعلا، فإذا واجه العالم في الفترة المقبلة صدمات على صعيد الطاقة إلى جانب الاضطرابات الناجمة عن "المواجهات" الجيوسياسية، فإن التضخم الذي تراجع بالفعل في المرحلة الماضية، ربما يعود إلى الصعود مجددا. ببساطة الاقتصاد العالمي لا يزال هشا، ولا يمكنه تحمل تحول سلبي في الأعوام القليلة المقبلة.
المحور الذي يبقى حاضرا على الساحة ليس إلا المستوى الأكثر استدامة الذي ستصل إليه أسعار الفائدة على المدى المتوسط على الأقل. وهنا تبرز مشكلة ليست سهلة الحل حتى عند أولئك الذين يعتقدون أن الأدوات الفاعلة المساعدة ليست مفقودة تماما. وهذه المشكلة ترتبط مباشرة بالأذى الذي يطول الشركات والمستثمرين، حتى المستهلكين في السياسة النقدية المتشددة التي يعتقد البعض أنه آن الأوان لتخفيفها بصورة فعلية لا شكلية أو صوتية.
لكن، يبدو أن الأمور ستتواصل على هذا النحو حتى نهاية العام الحالي على الأقل. وإذا ما بقيت أخطار التضخم ماثلة على الساحة، فليس أمام المشرعين سوى الالتزام برفع تكلفة الاقتراض، بصرف النظر عن أي تبعات جانبية أو مباشرة أخرى.
التراجعات باتت تظهر بوضوح على الساحة الاقتصادية العالمية. ففي آخر استطلاع في نطاق الأعمال، تبين أن منطقة اليورو تتجه نحو تراجع جديد، ما دفع نسبة كبيرة من المستثمرين إلى التحوط. وفي الآونة الأخيرة سجل اقتصاد ألمانيا انكماشا نادرا، على الرغم من أن البنك المركزي الأوروبي يصر على أنه لا خوف على أكبر اقتصاد في أوروبا. وفي كل الأحوال، المشهد العالمي ليس براقا، فحتى توقعات النمو تتم مراجعتها نحو الأسفل وليس الأعلى. ففي أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي، جاء أن النمو العالمي سيتراجع 3.5 في المائة 2022 إلى 3 في المائة في 2023 و2024. ومن المتوقع أيضا أن ينخفض التضخم الكلي إلى 6.8 في المائة في العام المقبل، و5.2 في المائة في 2024. وكما هو واضح، لا تزال نسبة التضخم -إن صدقت التوقعات بالطبع- بعيدة عن المستوى الرسمي المتفق عليه 2 في المائة.
الفارق في التقديرات واسع قليلا بين صندوق النقد والبنك الدوليين. فهذا الأخير حدد النمو في العام الحالي بـ2.1 في المائة، مع تحذيرات حقيقية من أخطار الضغوط المالية في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية عموما، التي تزداد حدة من جراء ارتفاع أسعار الفائدة.
المشهد الاقتصادي العالمي سيبقى مشوشا حتى منتصف العقد الحالي على الأقل، حتى لو تمكن العالم من السيطرة على آفة التضخم التي جاءت في وقت غير مناسب تماما.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي