بعد 500 يوم .. الحرب في أوروبا تكاد تفلت من عقالها
لا أظن أنه قد خطر ببال أي من الأطراف المتصارعة والموغلة في حرب ضروس لم تشهد لها أوروبا مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية، أن 500 يوم ستمر على معاركهم الطاحنة دون بصيص أمل في الأفق لوضع حد لنيرانها الملتهبة.
حين يفتح القراء الكرام أعينهم على مقال الأسبوع هذا، يكون قد مضى على الحرب 500 وستة أيام بالعد والمعدود.
وقد يتساءل البعض لماذا تتم متابعة هذه الحرب مع تغطية إعلامية واسعة على مدار الساعة وليس اليوم الواحد وحسب؟
بعض وسائل الإعلام الغربية الشهيرة مثل "ذي جاردين" لها كل يوم قصة مع هذه الحرب، أي ملف خاص. وفي الملف الذي يظهر على الصفحة الأولى هناك مقال يومي خاص عنوانه: "ماذا نعرف عن اليوم 506 من الحرب". بمعنى آخر، كل يوم هناك ملف خاص عن الحرب، وعن كل يوم هناك مقال خاص يتحدث بالتفصيل عن سير المعارك في ذلك اليوم.
وهذه حرب لا أظن أن العالم شهد لها مثيلا منذ عقود سبعة ونيف، لما لها من خصائص وتبعات ونتائج وعواقب وخيمة. قد لا أغالي إن قلت إن كل يوم يمضي تزداد عواقب هذه الحرب خطورة.
آثارها جلية حتى على مستوى الشارع والفرد في أوروبا برمتها، والخشية مما تخبئه الأيام ترتعد له الفرائص.
لقد جن جنون الغرب وأوروبا في هذه الحرب، لقد أظهرتهما على حقيقتهما التي طالما جرى طمسها تحت شعارات لم تعد تنطلي على كل ذي بصر وبصيرة.
أي عاقل في رأسه عينان لما سمح لحرب تشكل اليوم أكبر خطر وجودي على البشرية جميعا أن تستمر أكثر من 500 يوم، ليس هذا فقط بل يعمد المتورطون فيها إلى إذكاء نيرانها يوما بعد يوم.
بالكاد مضى يوم من الأيام الـ500 الفائتة دون أن يلقى في أتون هذا الحرب بمزيد من الجمر كي يزيد لهيبها اشتعالا، وها هي الحرب المدمرة هذه تعبر سقف الـ500 يوم وإذا بالمتصارعين، بدلا من إشغال العقل لإيجاد وسيلة لإطفاء النيران، يرمون فيها كل ما خف وثقل حمله وغلا ثمنه من الأسلحة الفتاكة.
لا تمضي فترة إلا ويتم فيها تجاوز خطوط حمراء وضعها المتحاربون لأنفسهم، لأن تجاوزها في حينه قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
لنأخذ بذاكرتنا إلى بدايات الحرب ونعرج على محطاتها الرئيسة لنرى أن ما بدا محرما في محطة ما صار جائزا في المحطة التي تلتها إلى أن وصلنا إلى محطة صارت فيها الأسلحة التقليدية المحرمة دوليا مثل القنابل العنقودية أمرا مستساغا.
وفي المحطة الأخيرة التي أعقبت الـ500 يوم الماضية أصبح التهديد باللجوء إلى الأسلحة النووية ـ أي الدخول في حرب عالمية ثالثة ـ من الشؤون التي يجري بحثها وبجدية.
وكل طرف صار يظهر ما يملكه من بأس وقوة وسطوة نووية تفوق ما لدى الآخر ويهدد كل طرف الآخر بالويل والثبور.
كل هذا يصدر من جزء من العالم تصور كثير منا أنه حكيم الدنيا، ومركز الحكمة وإشغال العقل. هذا الجزء من العالم كان ولا يزال يسخر من الجزء المقابل لأنه تسنتد فيه الناس إلى النقل وليس العقل في النظرة إلى القيم والتراث والثقافة وممارستها.
العالم خارج نطاق أوروبا والغرب ينظر إلى هذه الحرب بصدمة ودهشة فيها كثير من الخوف والرعب والخشية. هذا الجزء من العالم، الذي يقابل الغرب وأوروبا كان حتى نشوب هذه الحرب ينظر إلى الجزء الأوروبي والغربي المقابل كنموذج يحتذى وكانت تضرب به الأمثلة لما قد يصله الإنسان من سمو ورقي وتمدن وحضارة.
هذه حرب لا يعلم إلا الله عقباها وقد أحدثت شرخا في الحضارة الغربية وكشفت عن جرح عميق كاد العالم ينساه ويلصق أي مأساة إنسانية بالجزء من العالم خارج النطاق الغربي والأوروبي.
العالم صار على بينة أن الحروب العالمية منبعها أوروبا، وإن نشبت حرب عالمية أخرى، فإنها ستصنع مأساة أخرى للعالم والبشرية برمتها، وأعلام هذه الحرب تلوح في الأفق بعد مضي 500 يوم ونيف على سعيرها.
من حق العالم، خارج نطاق جغرافية أوروبا والغرب، أن يفكر مليا وجديا في طريقة حياة على كل المستويات للخروج من قيد الهيمنة الغربية على مقدراته ماليا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وفكريا وفي غيره من المضامير.
الحروب إفرازاتها ليست حميدة على الإطلاق، لكن إن كان لهذه الحرب الشنيعة من مآل، فإنها أيقظت العالم ونبهته لتقاعسه عن عدم إيجاد مخارج للحياة دون تدخل وتطفل الغرب وأوروبا على مقدراته.
وإن وضعت هذه الحرب أوزارها، هذا إن لم يجن جنون المتصارعين ويهرعون إلى استخدام الأسلحة الذرية، فإننا قد نكون أمام عالم فيه أقطاب متوازنة وليس قطب واحد يتحكم ويتلاعب في مصيره.