ابن خلدون وركائز بناء المجتمع
عبدالرحمن بن خلدون يمثل أحد أبرز علماء الاجتماع الأوائل، إلا أن نظرياته وأفكاره في نمو وتشكل وتطور المجتمعات ورخائها، لا تقتصر تطبيقاتها على العصر الذي عاش فيه، أو العصور القريبة من عصره، كما أن ما ورد في مقدمته ليس مقتصرا على مجتمعه الإسلامي، ولا على زمانه، بل إن علماء الاجتماع المعاصرين والسياسيين يستشهدون به لتأكيد حقائق اقتصادية وسياسية، لذا لا غرابة أن نجد الكتب والبحوث تزخر بما ورد في المقدمة. كما أن بعض النظريات الاجتماعية تنسب لعلماء غربيين، لكنها في حقيقة الأمر تعود إلى ابن خلدون.
استوقفتني لا أقول عبارة من عبارات ابن خلدون، بل نظرية متكاملة في بناء المجتمعات، نصها، ''الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمال، وإصلاح العمال، باستقامة الوزراء". التأمل في هذه العبارة يكشف لنا توافر حس عالم الاجتماع، وبصيرته في ملاحظة، واكتشاف الروابط، والأسس التي تقوم عليها المجتمعات بما يكفل لها النمو والاستقرار والإنتاج الجيد. وعند التدقيق في العبارة نجد تأكيده على مؤسسات رسمية في الدولة المعاصرة يلزم وجودها لضمان كيان وطن وحكومة متماسكة قادرة على تسيير الأمور في جميع المجالات مع إمكانية تقاطع ما تم ذكره في العبارة مع بعض الوظائف القائمة في عصر ابن خلدون مع اختلاف المسميات.
فاستقرار الوطن وأمنه مرتبط بالجند باختلاف المسميات من جيش، وأمن عام، واستخبارات، ومرور، مع ما يتطلبه كل هذه المؤسسات الأمنية والعسكرية من احتياجات بشرية مدربة، حسب التخصصات، وإمكانات مادية، كالسلاح، والأجهزة، وجميع التقنيات إذا ما كان الهدف توفير الأمن الداخلي والخارجي لدفع العدو حماية لتراب الوطن. وإذا كان الأمن مرهونا بالجند لذا يلزم توفير المال، حتى يتمكن الجند من التفرغ للقيام بمهماتهم الموكلة إليهم، لأنه دون رواتب تكفيهم متطلبات الحياة يستحيل استمرارهم في الوظيفة، لذا نجد دول العالم، بلا استثناء، تنفق على الجيوش والقطاعات العسكريه كثيرا من الأموال.
توافر المال يستلزم مصادر إنتاج إما من الزكاة، وإما من الخراج، في المصطلح السابق، على المنتجات الزراعية والحيوانية، وعلى عمليات التجارة والصناعة، لأنه دون هذه المصادر لن يكون بمقدور المال الكافي، إلا أنه في الوقت الراهن، ومع تطور العلم، اكتشفت موارد جديدة، كالمعادن، والبترول، والغاز.. الأعمال في جميع أنواعها من زراعة، وتجارة، وصناعة، وصيد بحري، وغابات تمثل أنشطة عمارة للأرض تحقيقا لما أنزل آدم من أجله إلى الأرض.
عمارة الأرض بالأنشطة المختلفة لا تتحقق دون تشريعات وأنظمة تنظم حياة الناس، وتحفظ حقوقهم، وتبين واجباتهم، لتكون المنتجات على مستوى جودة عالية تخدم الإنسان، وتحافظ على البيئة من الأضرار. إن تحقق العدل منوط بإصلاح العمال، وهذا يعني جودة تأهيل مخرجات التعليم والتدريب لضمان اكتساب مهارات الصنعة والأمانة، «إن خير من استأجرت القوي الأمين»، لذا وجدت وزارات ومؤسسات تعنى بشؤون العاملين تشريعا، وبرامج تأهيل، وحقوقا، وواجبات. تختم العبارة بصلاح المسؤولين، لأنهم المنوط بهم تنفيذ برامج التنمية.
تنظيمات الدولة الحديثة سعت لإيجاد المؤسسات الرقابية مثل ديوان المراقبة، أو ما يسمى في دول أخرى ديوان المحاسبة، إضافة إلى هيئة النزاهة، ومكافحة الفساد، بهدف توجيه جميع الموارد لإنجاز برامج التنمية البشرية، والخدمات بأنواعها كافة.