المعجزة الكورية في "فخ" ديمغرافي .. تراجع الخصوبة ينذر بأداء كارثي للاقتصاد
من المتعارف عليه أن البنوك المركزية عبر العالم تصدر تقارير تتناول الوضع الاقتصادي في دولها، وأحيانا تبحث وتقييم الوضع الاقتصادي الإقليمي والدولي، وفي الأغلب ما ينصب اهتمام البنوك المركزية على قضايا مثل التضخم والتوظيف وأسعار الصرف وما شابه ذلك، لكن أن يتحدث بنك مركزي لأحد أكبر الاقتصادات في عالم اليوم عن قضايا النمو السكاني ويحذر من الشيخوخة السكانية فإنه يبدو أمرا غريبا غير مألوف بعض الشيء.
هذا الغريب أو النادر الحدوث حدث بالفعل في كوريا الجنوبية، إذ أصدر البنك المركزي تقريرا حذر فيه بوضوح من أن شيخوخة السكان يمكن أن تقلل الفوائد التي يمكن أن يجنيها الاقتصاد الكلي من الإنفاق المالي، وأكد أن نقطة مئوية واحدة في زيادة الشيخوخة السكانية تؤدي إلى انخفاض بنسبة 5.9 في المائة في النمو المالي للناتج المحلي الإجمالي.
تحذير البنك المركزي لكوريا الجنوبية من الآثار الضارة للشيخوخة، يكشف أن المشكلة السكانية في البلاد باتت مستفحلة إلى الحد الذي يهدد مستقبل إحدى المعجزات الاقتصادية في العصر الحديث، ويذهب بما بنته من نجاحات أدراج الرياح.
وعلى مدار الـ60 عاما الماضية، شهدت كوريا الجنوبية أسرع انخفاض في الخصوبة في التاريخ البشري منذ بدء الاحتفاظ بالسجلات، ففي 1960 بلغ معدل الخصوبة للشعب الكوري وهو متوسط عدد الأطفال الذي تنجبه المرأة خلال أعوام الإنجاب ستة أطفال لكل امرأة، في العام الماضي كان هذا الرقم 0.78، بمعنى آخر كانت كوريا الجنوبية الدولة الوحيدة في العالم التي سجلت معدل خصوبة أقل من طفل واحد لكل امرأة، وبذلك تكون كوريا الجنوبية الدولة الوحيدة التي وصلت إلى هذا المستوى، على الرغم من أن دول أخرى مثل أوكرانيا وإسبانيا كانت قريبة من هذا المعدل لكنها لم تصل إليه.
اليوم يشعر المسؤولون في كوريا الجنوبية أن انخفاض معدل الخصوبة الذي تواصل لنحو نصف قرن ووصل إلى مستويات متدنية للغاية، سيكون له تأثيرات اقتصادية هائلة ستبدأ بانخفاض المعروض من العمالة، وتباطؤ في النزعة الاستهلاكية، وتراجع معدل النمو الاقتصادي، وربما ينتهي المطاف بأن تصبح البلاد أقل ثراء.
من جانبه، يرى الدكتور مايكل دوجلاس أستاذ علم السكان في جامعة ووريك، أن "كوريا الجنوبية مجتمع يشيخ بوتيرة سريعة للغاية، وحاليا هي أسرع مجتمع في العالم يتجه إلى الشيخوخة، ومن المتوقع أن يصبح مجتمعا متقدما في السن بحلول 2025، حيث سيمثل السكان الذين يبلغون 65 عاما وأكثر نحو 20 في المائة من إجمالي السكان، ويمكن أن يصلوا إلى نسبة غير مسبوقة ومذهلة تصل إلى 46 في المائة في 2067".
وأضاف "بالطبع فإن الكوريين الجنوبيين المسنين ينفقون أقل من الفئات العمرية الأخرى، ما يعني انخفاض في الاستهلاك، وهذا يقلق الدوائر الاقتصادية، لأن الميل للاستهلاك يتناقص بشكل حاد لمن هم فوق سن الـ50، لأن المخاوف المالية تتزايد كلما اقترب الإنسان من سن التقاعد".
وتابع "الشيخوخة السكانية تعني تضخم العبء المالي على الحكومة بسبب زيادة الإنفاق على الرعاية الاجتماعية".
لهذا يتوقع الخبراء أن استمرار معدل الخصوبة المنخفض بشكل غير طبيعي سيكون له عواقب وخيمة على اقتصاد كوريا الجنوبية، والمشكلة الأكثر وضوحا أن انخفاض عدد السكان الناشطين اقتصاديا وهم الذين تراوح أعمارهم بين 15 و64 عاما سيراجع من 37.4 مليون نسمة 2015 إلى 20.6 مليون عام 2065، وهو انخفاض بأكثر من 55 في المائة في نحو نصف قرن.
ووفقا للأرقام الصادرة من مكتب الإحصاء الكوري الجنوبي، فإن البلاد شهدت ميلاد 249 ألف طفل فقط العام الماضي، بانخفاض بلغ 4.4 في المائة عن العام السابق، كما أن هذا هو العام الثالث على التوالي الذي تتجاوز فيه أعداد الوفيات أعداد المواليد في رابع اقتصاد آسيوي، ويشير الخبراء إلى أن كوريا الجنوبية يجب أن يكون لديها معدل خصوبة 2.1 على الأقل للحفاظ على استقرار عدد السكان البالغ 52 مليون نسمة، وقد شهدت كوريا الجنوبية تقلص في عدد السكان لأول مرة 2021، ويتوقع أن ينخفض عدد السكان أكثر في الأعوام المقبلة بحيث يصل إلى 38 مليون نسمة بحلول 2070.
بالتأكيد كوريا الجنوبية ليست الدولة الوحيدة التي تكافح معدلات المواليد المنخفضة، فقد حذرت الحكومة اليابانية أخيرا من أن الانخفاض السكاني يقود البلاد إلى "حافة الاختلال الاجتماعي" لكن الاتجاه في كوريا الجنوبية ينذر بخطر أكبر، وذلك مع اختيار مزيد من الشباب تأخير سن الزوج وتكوين أسرة أو التخلي عن فكرة إنجاب الأطفال تماما، فقد وصل عدد الزيجات العام قبل الماضي إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، إذ لم يتجاوز 193 ألف زيجة.
ويضاف لذلك ارتفاع متوسط العمر المتوقع عند الولادة، الذي بلغ 85.5 عاما في 2020 وهو ثالث أعلى معدل في العالم.
لكن ما يجعل قضية الشيخوخة في كوريا الجنوبية أكثر إثارة من أي مجتمع آخر، هو أن انخفاض معدل الخصوبة حدث في فترة زمنية قصيرة نسبيا مقارنة بأي مجتمع آخر، فعلى سبيل المثال استغرق الأمر نحو 170 عاما في الولايات المتحدة حتى يتساوى عدد المواليد وعدد الوفيات وهو ما يعرف في علم السكان بمعدل الاستبدال.
وهنا قال لـ"الاقتصادية" الباحث في القضايا السكانية إل.دي. بوب، إن انخفاض الخصوبة في كوريا الجنوبية بدأ في أوائل الستينيات عندما تبنت الحكومة برنامج التخطيط الاقتصادي وبرنامج السكان وتنظيم الأسرة، في ذلك الوقت كانت كوريا تعاني اقتصاديا بشدة بعد أن دمر الاقتصاد نتيجة الحرب الكورية، وفي 1961 كانت كوريا الجنوبية من أفقر دول العالم، وكان نصيب الفرد من الدخل السنوي 81 دولارا فقط.
ويواصل قائلا "كان لانخفاض الخصوبة في كوريا الجنوبية تأثير إيجابي في بداية الأمر، إذ تحققت زيادات متسارعة في الاقتصاد نتيجة انخفاض معدلات المواليد والتغيرات الإيجابية المتعلقة بالتكوين العمري، حيث زاد عدد الأشخاص في سن العمل مع وجود عدد أقل من الأطفال الصغار وكبار السن المعالين، ولذلك تحولت كوريا الجنوبية من دولة فقيرة جدا إلى دولة غنية جدا".
وبالفعل تكشف الدراسات السكانية أن التغير الديمغرافي أدى إلى بدء النمو الاقتصادي الذي استمر حتى منتصف التسعينيات، حيث زادت الإنتاجية، كما نمت القوة العاملة وانخفضت البطالة تدريجيا، كل هذا سمح بتحقيق معدلات نمو سنوية في الناتج المحلي الإجمالي تراوحت بين 6 و10 في المائة لأعوام عديدة.
بدورها، ترى الدكتورة الينور ماركس أستاذة الاقتصاد الاجتماعي في جامعة ليدز، أن "التحسن الاقتصادي الناجم عن انخفاض معدل المواليد يعمل فقط في المدى القصير، لكن انخفاض معدل الخصوبة في الأغلب ما يكون كارثيا على أداء الاقتصاد الوطني في المدى الطويل، ويدفع بالاقتصاد إلى الزاوية، حيث لا يكون هناك من حلول سوى استقدام المهاجرين، لكن تدفق المهاجرين يوجد تحديات من نوع آخر لربما أكثر خطورة، إذ يترك تأثيرا مربكا على مفهوم الدولة والمواطنة ويحدث خللا في شبكة الأمن الاجتماعي وخلخله أكثر تعقيدا في المفاهيم التي أسست للهوية الوطنية".
وأضافت في حديثها لـ"الاقتصادية"، "في محاولة لتجنب الكابوس الديمغرافي عملت كوريا الجنوبية مثل اليابان، إذ أطلقت الحكومات برامج لتشجيع الناس على إنجاب الأطفال، بما في ذلك المساعدات النقدية والمساعدة في علاج الخصوبة ودفع النفقات الطبية، وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي كشفت الحكومة النقاب عن حزمة من الإجراءات لمعالجة انخفاض معدل المواليد وشيخوخة السكان، بما في ذلك إطالة فترات التوقف عن العمل للنساء بعد إنجاب الأطفال، وتوفير مزيد من المساكن بأسعار معقولة وفرص عمل أفضل للشباب، فقد بلغ معدل البطالة بين الأشخاص الذين تراوح أعمارهم بين 25 - 29 عاما نحو 5.6 في المائة، وذلك أعلى من المعدل الوطني للبطالة البالغ 3.6 في المائة".
مع هذا ظلت النتائج مخيبة للآمال فمنذ عام 2006 وحتى الآن أنفقت كوريا الجنوبية 200 مليار دولار في برامج لزيادة معدل المواليد دون أي جدوى أو تأثير حقيقي، وخلال الـ60 عاما الماضية لم يرتفع معدل الخصوبة، بل واصل الانخفاض، والأكثر خطورة أن علماء السكان يشيرون إلى أن كوريا لربما دخلت ما يعرف بـ"فخ انخفاض الخصوبة" الذي يشير إلى أنه بمجرد انخفاض معدل الخصوبة في بلد ما إلى ما دون 1.5 أو 1.4 فسيكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل زيادته بشكل كبير.