تأريخ حفلات التخرج

نستطيع أن نطلق على هذه الأيام زمن حفلات التخرج، تراهم في كل مكان تعتلي رؤوسهم قبعات التخرج، ينشرون الفرح في المدارس والجامعات وحتى الطرقات والمطاعم والمقاهي، وبالغ كثيرون في الاحتفالات حتى ترى خريج التمهيدي بروب التخرج وطوق الورد يتبختر لا تكاد تراه من صغر حجمه!
ويعتقد كثيرون أن هذه الاحتفالات دخيلة علينا مستحدثة، والحقيقة أن لها تاريخا ضاربا في العمق حتى الصحابة رضوان الله عليهم احتفلوا بتخرج أبنائهم، بل إنه لا توجد حضارة على مر العصور أكثر تقديرا للنابغين والحذاق من طلاب العلم من الحضارة الإسلامية، وتنوع الاحتفاء بهم بين الدعاء لهم بالبركة والتكريمات المادية بأنواعها وإقامة الولائم بعد اجتياز الدارسين عتبات التعليم بتفوق واقتدار!
واستخدم العرب مصطلح "الحذق" بمعنى التخرج في علم ما أو كتاب بعينه، أو صنعة من الحرف والحاذق هو الخريج، و"الحذاق" هو حفل التخرج! وكرم الخريجون قديما بطرق عدة، منها تلقيب الخريجين والنابهين من طلاب العلم، وهذه الألقاب الأكاديمية التي وضعت وفق معايير صارمة أسهمت في تأسيس مكانة للخريج في المجتمع، وحفظت له مقامه العلمي في حلقات التدريس، ولا تمنح إلا لمن اجتاز قدرا معياريا من المعارف المختصة في فن من الفنون، ففي مجال علوم الحديث يفوز نابغة بهما معا، فيقال: "الشيخ الرئيس"!
كما ميز الخريجون في عصور مختلفة من تاريخ الإسلام بزي محدد، وهذا التمييز فيه تبجيل وترميز للمنتمين إلى تلك الفئات بوصفها تمثل صفوة المجتمع ودافعا لكثير من ناشئة الشباب للتعلق بتلك النماذج العلمية والسعي على دربها، وكان اللباس عبارة عن ثوب "الطيلسان" زيا للخريجين الذي عادة ما يقوم الأستاذ بإلباسه إياه إضافة إلى قلنسوة يسمونها "القالص" توضع على الرأس وأول من سن هذا اللباس قاضي القضاة أبو يوسف البجلي.
كما منحت الشهادات التي تعرف قديما بالإجازة، وفيها نوع تخصص الخريج وأسماء أساتذته الذين تلقاه عنهم، والتنويه بسلوكه ومهاراته وهذه الشهادة هي جوازه للعبور إلى معترك الحياة.
وأول حفل "حذاق" أو تخرج أقامه الصحابي الجليل أبو مسعود الأنصاري لابنه ووزع فيه الجوز على الصبية، بل قام بعضهم بذبح الخراف والنياق ونثر الذهب والفضة على الحضور.
وأدت بعض احتفالات التخرج المبالغ فيها إلى تحولات سياسية عميقة، فقد انتهت خلافة المتوكل العباسي حينما أسرف في توزيع الأموال والمجوهرات احتفالا بتفوق ابنه الأمير المعتز، ما أثار غيرة ولده الآخر فتآمر على أبيه وقتله وجلس مكانه!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي