الطريق إلى إنتاج وتطبيق المعرفة
في سلسلة مقالاتنا عن اللغة الأم -وهنا أعني لسان الضاد- هناك تأكيد على المعرفة، ليس فقط إنتاجها، بل تطبيقها. ويأتي تطبيق المعرفة في مقدمة أوليات البحث العلمي في عصرنا هذا الذي ينتج من المعرفة ربما في عام واحد ما لم تنتجه البشرية في تاريخها.
ولا يخفى أن الوسيلة الأساسية لإنتاج المعرفة وتراكمها وتدريسها وتطبيقها هي اللغة. ولهذا لنا من المعرفة كثير عن شؤون البشرية منذ أن تمكن الإنسان من ناصية الكتابة.
وتحويل النطق إلى أحرف تحمل النظم الصوتية للكلام لم يكن أمرا يسيرا، ولم يتوصل إليه الإنسان إلا بشق الأنفس. عمر الإنسان طويل جدا. أسلافنا من البشر كانوا موجودين بصيغة أو بأخرى قبل ستة ملايين عام، حسب قول العلماء. حتى لو أخذنا الإنسان المعاصر -كما نعرفه اليوم- فإن تاريخه يعود إلى 200 ألف عام.
بيد أن الحضارة -أي الإنسان المتحضر الذي يعرف القراءة والكتابة- ظهر قبل نحو ستة آلاف عام على ضفاف دجلة والفرات في جنوب العراق، حيث دشن العراقيون القدامى ما يعرف بالكتابة المسمارية على ألواح من الطين. ومنذ حينه صار في إمكان الإنسان إنتاج المعرفة وتوثيقها وحفظها.
موضوعنا ليس تاريخ تطور المعرفة الإنسانية، بل كيف تسهم اللغة في إنتاج المعرفة وتدريسها وتطبيقها، وقلنا إن التطبيق، أي تحويل المعرفة إلى منتج أو خدمة لمنفعة المجتمع، هو ما يسعى إليه الإنتاج العلمي والمعرفي في عصرنا هذا.
ولكن نظرة فاحصة لتاريخ إنتاج المعرفة الإنسانية سترشدنا إلى معادلة ذات ربط وثيق بالنظم والأساليب التي نكتب اللغة فيها. فكلما تطورت الأساليب التي نحول فيها اللغة إلى شكل مكتوب، زادت وتوسعت الطرق التي تساعدنا على إنتاج المعرفة.
عندما كان يكتب الإنسان على الرقم الطينية في جنوب العراق، فسحة إنتاج المعرفة وخزنها وتدريسها وتطبيقها كان محددا ومحدودا.
عندما تصبح الكتابة جزءا من خوارزميات، والنشر متوافر وبسرعة ودون حد أو حدود، كما هو الحال اليوم، تزداد فسحة إنتاج المعرفة وخزنها وتطبيقها وتدريسها.
بالطبع هناك عوامل أخرى لها مفعولها في هذه المعادلة، ولكن تحويل الكتابة إلى خوارزميات متاحة لكل اللغات يمثل في وجهة نظري أكبر طفرة في التطور الحضاري للبشر، حيث يمنح الفرصة للكل تقريبا، شعوب ودول ولغات، لإنتاج المعرفة وتطبيقها، هذا إن أردوا ذلك وسعوا إليه.
وأين هي المعرفة اليوم وفي أي وسيلة تتوافر، وما السبيل لنشرها ودرسها وتعليمها وتطبيقها؟ ومن ثم، من الذي يملك وسائل نشرها وإمكانية الاستفادة منها من أجل التطوير والتنمية والنمو؟ وأي مؤسسات تأخذ على عاتقها إنتاج المعرفة ونشرها وإتاحتها للتطبيق لتطور ونمو الحياة البشرية؟ وأخيرا، ما دور اللغة في نشر الإنتاج العلمي؟
أسئلة أراها حيوية والإجابة عنها، بطريقة تجعل من إنتاج المعرفة وتطبيقها وطنيا أمرا ممكنا، في غاية الأهمية إن أراد بلد أو شعب اللحاق بركب الحضارة والمدنية الحديثة، التي واحد من أهم سماتها هو توطين العلم والمعرفة، وما يتبعهما من تطور فائق في الصناعة والزراعة والخدمات والتكنولوجيا والخوارزميات والأجيال المتتالية من الذكاء الاصطناعي.
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة المصيرية في عصرنا هذا، التي في نيتي تخصيص مقالات منفصلة عن كل واحد منها، أذكر القراء الكرام أننا عند قراءتنا لمسعى اللحاق بركب الحضارة الحديثة والتطور والنمو الذي يرافق الدول الغربية، نستذكر في الأغلب دولا وهي: مصر، واليابان، وماليزيا، والصين.
يذكرنا الباحثون في إنتاج المعرفة وتطبيقها بهذه الدول، وذلك للتشابه في سعيها للحاق بركب الحضارة الغربية، مع تباين النتائج.
في القرن الـ19، أرسلت كل من اليابان ومصر مبتعثين بالآلاف إلى الدول الغربية من أجل اكتساب العلم والمعرفة وإنتاجهما، ومن ثم تطبيقها أي توطينها. اليابان صار إنتاجها العلمي والمعرفي والتطبيقي يوازي، بل ينافس الدول الغربية ومنها أمريكا. مصر تسعى إلى سبيل إنتاج المعرفة وهضمها وتطبيقها على المستوى الوطني.
في مستهل الخمسينيات من القرن الماضي ظهر زعيم كبير في العالم الثالث في ماليزيا جعل منها نمرا اقتصاديا يشار له بالبنان اليوم.
أما الصين، فإنها أبدعت في النهل من العلم والمعرفة وإنتاجهما وتدريسهما وتوطينهما وتطبيقهما، ودخلت اليوم في مجال التصميم الوطني في أكثر العقد التكنولوجية والخوارزمية رقيا وتطورا، وبزت اليابان وصارت ندا ونظيرا خطيرا للولايات المتحدة.
لماذا لم تفلح بعض دول المنطقة؟ هل هي مشكلة في العقل الجمعي العربي، كما يدعي بعض المفكرين العرب أم شيء آخر؟ من السهولة بمكان مهاجمة العقل الجمعي والإكثار من النقد والهجوم على التراث والتاريخ. كنت أتمنى من هؤلاء أن يقدموا بدائل تمكن العرب من توطين العلم والمعرفة. أمامنا شوط طويل من الحديث في الشؤون المهمة هذه، ونحن أمام عديد من الأسئلة، التي نطرحها ونتركها دون جواب وأمام مشكل ننتقده دون تقديم بدائل.