Author

مؤشرات بداية السيطرة على التضخم .. ولكن

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

أظهرت مؤشرات أسعار 68 سلعة حول العالم يراقبها صندوق النقد الدولي حتى نهاية نيسان (أبريل) الماضي، يقوم بنشر بياناتها من خلال أربع فئات رئيسة تضم مختلف أصول السلع "الطاقة، الزراعة، الأسمدة، والمعادن"، تراجع أغلب أسعارها بنسبة تصل إلى 76.6 في المائة من إجمالي أصول السلع، مقابل ارتفاع ما لا تتجاوز نسبته 23.4 في المائة من الإجمالي، وهو ما يعد فارقا بدرجة كبيرة عما كانت عليه التغيرات في أسعار تلك الأصول قبل عام مضى في الشهر نفسه، الذي وصلت نسبة الأصول التي سجلت ارتفاعات سنوية إلى 87.2 في المائة، مقابل انخفاض ما لا تتجاوز نسبته 12.8 في المائة من الإجمالي، وجاء في مقدمة الارتفاعات الكبيرة التي سجلتها تلك الأصول في العام الماضي، الارتفاع الذي سجل في أسعار كل من معدن الليثيوم بنسبة قياسية بلغت 446.3 في المائة "سجل انخفاضا 40.8 في المائة بنهاية أبريل 2023"، والغاز الطبيعي بنسبة ارتفاع قياسية بلغت 339.3 في المائة "سجل انخفاضا 57.2 في المائة بنهاية أبريل 2023".
يمكن القول مبدئيا إن هذا الانكماش الذي طرأ على أغلب أسعار أصول السلع "الطاقة، الزراعة، الأسمدة، والمعادن"، جاء نتيجة اندفاع البنوك المركزية حول العالم بقيادة "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي نحو رفع معدلات الفائدة بوتيرة متسارعة جدا، إضافة إلى تمركز سياسات البنوك المركزية ضمن حدود التشديد الكمي كأقصى حد وتخفيف التيسير الكمي، مقارنة بما كان عليه الحال قبل ذلك. ورغم التراجعات التي شهدتها الأسعار المتضخمة لمختلف تلك الأصول طوال الفترة الماضية، وانعكاسها إيجابيا على تراجع معدلات التضخم في أغلب الدول عن مستوياته القياسية التي وصل إليها منتصف العام الماضي، إلا أن بقايا التضخم لا يزال جزء منها موجودا في أغلبية شرايين الأسواق والاقتصادات على الرغم من تراجعاته الأخيرة، ولا تزال الأسعار أعلى مما كانت عليه قبل اندلاع نيران التضخم في أغلبها، أي ما قبل نهاية الربع الأول من 2021، حتى مقارنة بمستوياتها في الربعين الثاني والثالث من 2021، وهي الفترة التي ظن "الاحتياطي الفيدرالي" أنه مجرد تضخم عابر ومؤقت!
كما لا تزال مستويات أسعار العقارات حول العالم تتذبذب عند قممها الأعلى تاريخيا، على الرغم مما شهدته من تراجعات في نهاية 2022 وفقا لبيانات بنك التسويات الدولية BIS، وما زالت الأسواق المالية رغم تذبذباتها منذ مطلع العام الجاري أيضا عند مستويات متضخمة، والأهم من كل ذلك ما زالت أغلب المؤشرات الاقتصادية الرئيسة مستقرة على قدر جيد من التعافي، بدءا من النمو الاقتصادي الحقيقي الذي لم يصل إلى الركود، وصولا إلى معدلات البطالة التي لا تزال عند أدنى مستوياتها القياسية خلال أكثر من خمسة عقود زمنية مضت، ورغم خفض تقديرات النمو الاقتصادي والتوقعات غير المواتية لأسواق العمل، التي يقوم صندوق النقد والبنك الدوليان بإعلانها فترة بعد فترة، إضافة إلى تقارير كبرى المنظمات والبنوك الدولية.
يمكن تصور المشهد العام اقتصاديا وماليا على مستوى الاقتصاد العالمي، أنه تراجع بدرجات ملموسة عن قمم التضخم التي وصل إليها في منتصف 2022، وهذا منجز يحسب في أغلبه لمصلحة البنوك المركزية، لكن لم تصدر حتى تاريخه المؤشرات الملموسة والحقيقية على التخلص من داء التضخم وأعراضه، وقد تصح مقولة إن الجميع قد قطع جزءا جيدا من طريق العودة، في الوقت ذاته الذي لا يظهر ما يؤكد متى سيتم قطعه كاملا، ولا أين سيتوقف القطار العالمي، ولا على أي حال سيكون عليه مختلف نشاطات وأسواق العالم. كل هذا ما زالت تغلفه درجات متقلبة من الضبابية، ما إن تخف حدتها في فترات معينة، حتى تعود إلى مزيد من الغموض وبالمفاجآت الصادمة "سقوط كبرى الشركات والبنوك في دائرة الإفلاس، على سبيل المثال لا الحصر".
كما أن مما يزيد من ضبابية المشهد العام للاقتصادات والأسواق لدى البنوك المركزية، احتمالات أن يعود معدل التضخم إلى الارتفاع مجددا، ما يقود إلى فهم الإصرار الكبير لدى البنوك المركزية بقيادة "الاحتياطي الفيدرالي" على المضي قدما، إما في رفع معدل الفائدة، وزيادة التشديد الكمي، وإما المحافظة على معدلات الفائدة المرتفعة بمستوياتها الراهنة! وهو ما سيتضح بصورة أكبر في الـ14 من الشهر الجاري، وماذا سيتخذه مجلس الاحتياطي الفيدرالي بعد أسبوع من تاريخه حول معدل الفائدة، هل سيقوم برفعها بنحو 25 نقطة أساس، لتصل إلى 5.5 في المائة عائدا بها إلى مستواها في نهاية حزيران (يونيو) 2006؟ أم سيعلن تثبيتها عند مستواها المرتفع الراهن 5.25 في المائة؟ وهذا سيتعمد على ما سيتم إعلانه حول معدل التضخم لأيار (مايو) الماضي في الولايات المتحدة قبل اجتماع "الاحتياطي الفيدرالي"، "تراجع إلى 4.9 في المائة خلال أبريل الماضي"، مضافا إلى ما سبق إعلانه حول معدل البطالة الذي سجل خلال أيار (مايو) الماضي ارتفاعا طفيفا إلى 3.7 في المائة، مقارنة بمعدله السابق 3.4 في المائة خلال الشهر الأسبق، الذي يعد من أدنى معدلات البطالة في الولايات المتحدة خلال أكثر من خمسة عقود زمنية مضت.
التجربة السابقة مع "الاحتياطي الفيدرالي" منذ بدأ عمليات رفع معدل الفائدة العام الماضي، تؤكد أنه يميل إلى جهة التشدد وعدم التهاون، ويحاول -قدر الإمكان- إصلاح ما أفسده طوال 2021، بتأخره الصريح في مواجهة التضخم أوائل موجات ارتفاعه، ولا يريد المغامرة مجددا مع عدو لدود، كالتضخم، إن عاد إلى الارتفاع مجددا، فإن خيارات "الفيدرالي" ستكون بالتأكيد أضيق وأقل مما سبق، وكل هذا ستتبين حقيقته بعد أسبوع كامل من تاريخ اليوم.

إنشرها