Author

استقرار السوق بقرارات ناضجة

|

تسعى "أوبك+" دائما عبر قراراتها المدروسة إلى تحقيق فرص التوازن في أسواق البترول العالمية واستقرار الأسعار، ما يساعد في السيطرة على التذبذب الحاد للأسعار وتعزيز النمو الاقتصادي العالمي، الذي شهد تراجعا واضحا خلال الفترة الماضية وما زال يواجه تحديات، بسبب عدة صدمات من أزمة صحية وصراعات عسكرية في مناطق حساسة في العالم، إضافة إلى تأثير قرارات البنوك المركزية بشأن رفع أسعار الفائدة وارتفاع معدلات التضخم غير المسبوقة وقد كان للعوامل الجيوسياسية الأثر الأكبر في هذه الأزمة.
وبعد اجتماع "أوبك+" الوزاري الذي عقد مطلع الأسبوع في فينيا، وهو التحالف الاستراتيجي الذي ينظم سوق البترول، ويعمل على ضبط حوكمتها، قررت تخفيض الإنتاج خلال 2024 بمقدار 1.4 مليون برميل يوميا، استنادا إلى مستويات تشرين الأول (أكتوبر) 2022، وسيبلغ مستوى إجمالي إنتاج النفط الخام للدول الأعضاء في التحالف نحو 40.46 مليون برميل يوميا من مطلع 2024 حتى نهايته، بدلا من 41.86 مليون برميل يوميا (حجم إنتاج أكتوبر 2022)، ورغم أن هذا القرار يتضمن سريان التخفيض بدءا من 2024 إلا أن السعودية وروسيا وعددا من الدول قد قررت الاستمرار في تخفيض طوعي حتى نهاية 2023، وحجم هذه التخفيضات يصل إلى 1.44 مليون برميل يوميا، وإضافة إلى هذه التخفيضات الطوعية فقد أعلنت السعودية تخفيضا طوعيا إضافيا بمقدار مليون برميل يوميا ولمدة شهر.
الجدير بالذكر هنا، هو أن هذه التخفيضات الطوعية وقرارات "أوبك+" الإلزامية بشأن التخفيضات الحالية والمقبلة إنما تأتي انعكاسا لقوى العرض والطلب في السوق البترولية، التي تتأثر بمستويات النمو الاقتصادي العالمي، فليست موجهة بأي صورة أو شكل نحو قضايا سياسية أو خلافات مهما كان شكلها، وقد سعت السعودية منذ زمن طويل وفقا لسياسة تجنيب النفط قضايا الصراع السياسي، وأن يكون أداة من أجل تحفيز النشاط الاقتصادي العالمي، ولكن دونما الإضرار بالمنتجين أو المستهلكين على حد سواء، وهذا ما أكدته السعودية في أكثر من مناسبة، وأن تغليب جانب مقابلة الطلب ورفع الإنتاج دونما مراعاة لظروف المنتجين فإن ذلك قد يقود إلى تراجع الأسعار بطريقة تضر بقوى الإنتاج وتعطل الاستثمارات ما يعود بالأسعار بعد حين إلى قفزات مؤلمة، ولكن عنما تتم المحافظة على مستويات سعرية تساعد المنتجين ولا تضر بالنمو الاقتصادي فإن هذا هو التوازن الذي من أجله نشأت "أوبك+" وما زالت تعمل.
وهنا نلاحظ أن تقارير اقتصادية مختلفة من بينها تقارير البنك الدولي وتقارير صندوق النقد الدولي أكدت تأثر النمو الاقتصادي العالمي بارتفاع أسعار الفائدة واستمرار التضخم، مع استمرار مشكلات في الإنتاج و سلاسل الإمداد، وقد جاء في تقرير "الاقتصادية" أن مؤشر بنك هامبورج التجاري النهائي لمديري مشتريات قطاع الصناعات التحويلية في منطقة اليورو تراجع إلى 44.8 بعد أن كان المؤشر عند قراءة 45.8 في نيسان (أبريل) وبهذا يكون أقل من قراءة 50 وهي الحد الفاصل بين النمو والانكماش، أي أن هناك تراجعا في النمو قد يتم تصنيفه انكماشا لو استمرت الحال هكذا حتى نهاية العام، خاصة أن هذا التراجع على نطاق واسع في أكبر اقتصادات منطقة اليورو وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، فهناك مشكلات تواجه المنتجين وتتجه المصانع نحو تخفيض إنتاجها، وهذا ظاهر أيضا في الولايات المتحدة والصين وفي كوريا الجنوبية وفيتنام وتايوان كما أن إنتاج المصانع اليابانية انخفض بشكل غير متوقع في نيسان (أبريل)، وقد أشارت تقارير لمؤسسات دولية تم نشرها في آذار (مارس) الماضي إلى أن التجارة العالمية تواجه تقلبات حادة، وهي تتجه منذ منتصف العام إلى الاتجاه السالب بمقدار 1 في المائة، فالإنتاج العالمي وثقة مديري المشتريات والتجارة العالمية كلها تسير نحو الركود الذي أصبح واقعا في عدد من الدول الأوروبية خاصة، وذلك في وقت ما زالت تكافح فيه البنوك المركزية عوامل التضخم وتسعى إلى كبح الطلب، وفي ظروف كهذه فإن تخفيض إنتاج النفط من أجل منع تضخم المعروض هو الحل الاقتصادي السليم، والمسار الآمن للعالم أجمع.
وهكذا استجابت "أوبك+" للظروف الراهنة، وهو القرار الصائب، خاصة أنها لم تنفذ تخفيضات إلزامية حاليا بل أجلت ذلك إلى 2024 ما يسمح للدول الآن باتخاذ قرارات أكثر بصيرة بشأن النمو العالمي ويوفر معلومات وافية للأسواق وهنا يظهر بوضوح ما قصده الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة عندما أشار في أيار (مايو) الماضي إلى أن "أوبك+" ستواصل العمل الاستباقي والوقائي والتحوط ما قد يأتي في المستقبل، بغض النظر عن أي انتقادات، كما أكد أن المنظمة لديها ثلاثة أهداف وهي "اليقظة والمبادرة والتحوط مما قد يأتي في المستقبل"، كما حذر المضاربين في أسواق النفط بأنهم سيتألمون وقال لهم "احذروا". الأسواق الآن تعرف بشكل شفاف قرارات المجموعة حتى 2024 وهي سابقة تاريخية في أسواق النفط التي طالما تلاعب بها المضاربون على أساس إجبار أصحاب القرار على الاستجابة لاتجاهات الأسعار التي تم التخطيط لها مسبقا.
وخلاصة الأمر أنه يبقى القول إن الحوكمة هي سيدة القرار في الأسواق البترولية الآن، وإن التخفيضات من كل جانب هي محل المراقبة والتحقيق، فالقرارات بالتخفيض الطوعي الإضافي التي اتخذتها السعودية ليست من باب فتح الأسواق للآخرين، بل هي من أجل منح الآخرين فرصة لتحقيق التوازن المطلوب في السوق.

إنشرها