بصمة «بريكست» لا تزول

"مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تفشل"
ناجيل فاراج، زعيم حملة انفصال بريطانيا

لم تؤثر الحرب في أوكرانيا وآثارها في الساحة البريطانية، ولا حتى أزمة جائحة كورونا، ولا مشكلة ارتفاع أسعار الطاقة التي مرت بها البلاد، على الموضوع الذي يبدو أن لا نهاية له، وهو مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست". بعد مرور ثلاثة أعوام ونصف العام تقريبا على الانفصال فعليا عن الكيان الأوروبي الضخم، الموضوع يتصدر المشهد العام، ليس من باب تزايد عدد أولئك النادمين على حدوث "بريكست"، من جهة الآثار السلبية التي تركها هذا الانفصال على الساحة المحلية في المملكة المتحدة، والتي بدأت تظهر في عدد من القطاعات المحورية لمسار الاقتصاد الوطني ككل. صحيح أنه بعد 47 عاما من العضوية في الاتحاد الأوروبي، ليس سهلا الخلاص النهائي من آثارها، لكن الصحيح أيضا، أن المؤيدين المتحمسين للانفصال عموما، بدأوا بتغيير رؤاهم، على أساس، إما خطأ الخروج أصلا، وإما سوء تنفيذ هذا الخروج من الحكومات المتعاقبة في لندن.
بالطبع تزادا الضغوط على هذه الساحة، كلما ظهرت الأرقام المخيبة للآمال، بما في ذلك، أن الاقتصاد البريطاني هو الوحيد بين اقتصادات "مجموعة السبع" الذي لم يستعد عافيته بالمستوى نفسه الذي كان عليه قبل جائحة كورونا. كما أنه يقدم أسوأ أداء بالفعل مقارنة باقتصادات مجموعة العشرين، باستثناء الاقتصاد الروسي، فضلا عن حقيقة أن هذا الاقتصاد انكمش 4 في المائة بسبب "بريكست"، وفق الجهات الرسمية البريطانية. وبعد مرور كل هذه الفترة على الانسحاب الفعلي، لم تستطع لندن استكمال اتفاقية الانسحاب تماما مع المفوضية الأوروبية، لأسباب تتعلق بالموضوع الأيرلندي الذي يراوح مكانه، على الرغم من الاتفاق الأخير الذي تم التوقيع عليه بين الطرفين، لكن لم ينفذ بعد. ويبدو أنه لن يكون في موضع التنفيذ لفترة طويلة قد لا تكون في عهد حكومة ريشي سوناك الحالية.
الخسائر الناجمة عن "بريكست" ليست حكرا على المملكة المتحدة، فهي تشمل الاتحاد الأوروبي أيضا، لكن بمستوى أقل. من هنا تجري مراجعات لا تتوقف حول المخططات الرامية لإنشاء علاقة طبيعية مع الكتلة الأوروبية، على الرغم من تحسن التواصل في أعقاب خروج بوريس جونسون من السلطة في لندن، حيث كان يعد عائقا أمام أي اتفاق مع أوروبا يضمن مصالح الطرفين، ويعيد بعضا من عبق العلاقة التاريخية بين جهتي "المانش"، أو كما يحب البريطانيون تسميته بـ"القنال الإنجليزي". الأزمات تتلاحق على صعيد تأمين بدائل لليد العاملة الأوروبية التي غادرت البلاد في أعقاب "بريكست". هذه النقطة خصوصا، تسببت "ولا تزال" في مشكلات جمة لبلد يقوم اقتصاده بالدرجة الأولى على الخدمات.
ماذا يحدث أيضا؟ يسعى المستثمرون البريطانيون إلى الحصول على موطئ قدم لهم في السوق الأوروبية الموحدة، وذلك لتجنب الأعباء الناجمة عن الإجراءات واللوائح البيروقراطية في أعقاب "بريكست". واللافت أن نسبة متصاعدة من الشركات البريطانية بدأت تؤسس لأعمالها في ألمانيا خصوصا، نظرا إلى القوانين الميسرة في هذا البلد، فضلا عما يتمتع به من سمعة وبنى تحتية عالية الجودة. ومنذ الانسحاب تشهد دول أخرى، مثل: فرنسا وهولندا والنمسا وغيرها، شبه هجرة لشركات بريطانية نحوها. وهذا مفهوم تماما، لأن الأعمال تتطلب نسبة أقل من الإجراءات والقوانين، لتمشي وفق المسارات المأمولة. واستنادا إلى جريدة "فاينانشيال تايمز" البريطانية الرصينة، فقد أقامت الشركات البريطانية 170 مشروعا في ألمانيا العام الماضي، بارتفاع 21 في المائة مقارنة بـ2021.
هذه النقطة تؤرق الحكومة البريطانية بالطبع، خصوصا مع إعلان مجموعة من المصانع عزمها نقل أعمالها إلى البر الأوروبي، إذا لم تكن هناك تفاهمات بين لندن وبروكسل حول تسهيلات تجارية وصناعية تلغي الإجراءات المعقدة الراهنة. وفي الآونة الأخيرة أبلغ قادة الأعمال في بريطانيا رئيس الحكومة ريشي سوناك، أن البلاد صارت أقل جاذبية للتسوق في أعقاب "بريكست"، حتى للشركات الاستثمارية الأجنبية، وعلى رأسها الأمريكية. فواشنطن لم توقع حتى اليوم اتفاقا تجاريا مع لندن بسبب "عقدة" أيرلندا التي لم تحل بعد، ما يمنح الأفضلية للعلاقات الأمريكية الأوروبية. وكان الرئيس جو بايدن، واضحا حين قال علنا، "حلوا الموضوع الأيرلندي قبل بدء أي نقاشات حول الاتفاقات التجارية معكم".
المسائل العالقة لا تزال حاضرة على ساحة "بريكست"، في مقدمتها بالطبع المسألة الأيرلندية، والخدمات المالية المحورية أيضا، فضلا عن قطع غيار السيارات وصيد السمك، والتعاون الأكاديمي، وغير ذلك من قضايا جعلت حتى المؤيدين الشرسين لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يثيرون الشكوك حول الأمر برمته. فوفق آخر الاستطلاعات التي أجراها معهد "يوجوف" YouGov الشهير، أكد 62 في المائة من الناخبين أن "بريكست" كان فشلا ذريعا حقا. ما يعني أن ثلثي الذين صوتوا لمصلحة الخروج باتوا أكثر شكا. وهذا يؤكد أن مصير بريطانيا الأوروبي الموحد لن يكون مسألة عابرة تمر بمجرد التوقيع على وثائق الانسحاب. إنها عملية معقدة جدا ومترابطة بقوة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي