Author

هل تتخلف أمريكا عن السداد؟

|

تقود المناكفات السياسية في كثير من الأحيان إلى عواقب وخيمة على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للأمم. وتجري في الولايات المتحدة هذه الأيام مناورات متضاربة بين الأوساط الحاكمة حول رفع سقف الدين العام. ويحاول طرفا الحكم في الولايات المتحدة تحقيق مكاسب سياسية من خلال تعريض الدولة لأزمة تخلف عن السداد، تعرض الاقتصاد الأمريكي ومعيشة السكان لمخاطر غير محسوبة. ويهدد عدم رفع الدين العام بوقف قدرة الحكومة الفيدرالية الأمريكية على الاقتراض والوفاء بالتزاماتها. وترتفع مخاوف متزايدة من قبل الأسواق والمؤسسات والأوساط العالمية حول عجز طرفي الحكم في الاتفاق على رفع سقف الدين وتجنب حالة التخلف عن السداد.
يتمتع الاقتصاد الأمريكي بوضع خاص عالميا، فهو الأكبر، والأكثر وجهة للاستثمارات المالية وغير المالية، ولديه أضخم الأسواق المالية وأعمقها. إضافة إلى ذلك تتمتع مؤسساته المالية والنقدية والقانونية بثقة العالم، وتعد عملته الدولار العملة العالمية الرئيسة والأكثر استخداما، كما تحتل سندات الخزينة الأمريكية مكان الصدارة أمانا على مستوى العالم. وتبنى معدلات الفائدة العالمية على معدلات فائدة السندات الأمريكية. ولم تأت الثقة بالسندات الأمريكية من فراغ بل جاءت نتيجة استمرار الحكومة الأمريكية بدفع التزاماتها تجاه حملة السندات، والحفاظ على متانة الاقتصاد الأمريكي وقوته، واستقرار الدولار عبر فترة طويلة من الزمن. وقد مكن هذا حكومة الولايات المتحدة من الاقتراض بأقل تكاليف ممكنة والحصول على الموارد التي تحتاج إليها.
إن التخلف عن سداد التزامات الحكومة الأمريكية تجاه مواطنيها والعالم ـ بمن في ذلك حملة السندات ـ سيمثل صدمة قوية للاقتصادين العالمي والأمريكي، وكلما زادت فترة التخلف عن السداد ازدادت الخسائر الناتجة عنه. كما أن التخلف عن السداد ولو لمرة واحدة قد يقود إلى تكراره مرات مقبلة وهز الثقة الطويلة المكتسبة بالسندات الحكومية الأمريكية والدولار والاقتصاد الأمريكي برمته.
ستخفض حالة تعثر السداد ـ إذا حدثت ـ ثقة المتعاملين مع الحكومة الأمريكية وحاملي سنداتها بقدراتها على الوفاء بالتزاماتها. وهذا سيقود إلى رفع تكاليف تنفيذ المشاريع والمشتريات الحكومية، وزيادة تكاليف الاستدانة، وتراجع التصنيف الائتماني للحكومة الأمريكية وسنداتها. وسيؤدي تراجع التصنيف الائتماني لسندات الخزينة إلى رفع معدلات الفائدة عليها. ولو ارتفعت معدلات الفائدة على سندات الخزانة بربع نقطة مئوية فقط فهذا سيزيد تكاليف الدين العام الأمريكي على الأمد الطويل بمبالغ هائلة سنويا، ما سيفاقم أزمة الدين العام المتعاظم الذي يبلغ حاليا 31.4 تريليون دولار، ويفوق حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. كما سيخفض تراجع الثقة بالسندات الأمريكية أسعارها ما سيتسبب بخسائر كبيرة لحامليها العالميين وداخل الولايات المتحدة. وهذا سيثبط مستقبلا تدفق الاستثمارات المحلية والعالمية إليها وبالتالي يؤثر سلبا في النشاط الاقتصادي الأمريكي ومستويات المعيشة. ونظرا إلى ضخامة الاستثمارات الأجنبية في هذه السندات فإن التخلف عن السداد يجعلها مشكلة عالمية أيضا، ويخفض جاذبيتها لاحتياطيات المصارف المركزية العالمية واستثمارات المصارف التجارية. ولو تخلفت الحكومة عن سداد التزاماتها فسيلحق الضرر أيضا بالعملة الأمريكية ويقلل من ميزات الاستدانة التي تتمتع بها أمريكا ويصعب سهولتها وتمويل الواردات بالدولار.
يعتمد كثير من المؤسسات والأشخاص داخل وحتى خارج الولايات المتحدة على إنفاق الحكومة الأمريكية في تسيير شؤونها ولو بشكل جزئي. وسيصل إنفاق الحكومة الأمريكية هذا العام إلى نحو 5.8 تريليون دولار "نحو 6 في المائة من الناتج المحلي العالمي"، منها ما يقارب 400 مليار دولار مخصصة لفوائد الدين العام. وتخلف الحكومة الأمريكية عن سداد بعض التزاماتها ربما يؤخر على الأقل صرف بعض أجور عاملي الحكومة الأمريكية بمن في ذلك أفراد القوات المسلحة والقادة السياسيون، كما سيؤخر صرف بعض مخصصاتها تجاه مواطنيها، وأهمها مخصصات التقاعد والرعاية الطبية لكبار السن ومنخفضي الدخل والتحويلات للفقراء. وإذا طالت مدة التخلف فإن من شبه المؤكد أن قطاعات اقتصادية واسعة ستتأثر سلبا ما سيتسبب في إدخال الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود.
من شبه المؤكد أن تخلف الولايات المتحدة عن سداد بعض التزاماتها ولو لفترة وجيزة سيلحق أضرارا بالغة بالاقتصادين الأمريكي والعالمي على حد سواء. وستطول الأضرار حتى صناع القرار في الولايات المتحدة من جانبي الصراع حول رفع سقف الدين العام الأمريكي. لهذا من المرجح أن يتم الخروج باتفاق على رفع الدين الأمريكي العام قبل الوصول إلى لحظة التخلف عن السداد. ولكن عودة التشاحن حول حدود الدين بعد فترة من الزمن أمر مرجح بدرجة كبيرة لضخامة عجز الميزانية الحكومية الحالية والمستقبلية. وسيقترب حجم العجز المالي الحكومي هذا العام من 1.2 تريليون دولار ويستمر في الارتفاع الأعوام المقبلة.
عموما، إن وصول المشرعين والتنفيذيين الأمريكيين إلى هذه المرحلة من الجدل والتنافر حول سقف الدين العام والاقتراب من مرحلة حد الهاوية، أثار كثيرا من الاستياء والقلق لدى الأسواق والدوائر المالية المحلية والعالمية. وما لم يتم التعامل مع مسألة سقف الدين بشكل سلس مستقبلا فستتقوض مع مرور الوقت الثقة العالية بالسندات الحكومية الأمريكية وتتزعزع مكانة الاقتصاد الأمريكي والدولار.

إنشرها